لنرمي الجوهرة في جحور الثعابين والعقارب ودهاليز الظلام، أو في المستنقعات الآسنة السامة، من أجل أن نجد لأنفسنا عملاً نشغل به أوقاتنا وأعمارنا ونربي عليه أبناءنا، ذلك العمل الشريف هو البحث الدؤوب عن الجوهرة، ثم لنروي للأجيال ـ جيلاً بعد جيل ـ البطولات التي حققناها حينئذٍ، ثم لنستمتع يوماً ما إن تحقق ذلك بحفلة رؤية الجوهرة، ثم لنستمتع أخرى لانتشالها وصقلها. وحينها سنختلف من يلمسها أولاً؟ وهل يجوز أن نأخذ الصور التذكارية إلى جوارها؟ وإذا جاز ذلك فما هي الآلية المناسبة أفرادى أم زرافات؟ وماذا لو لم يظهر الجميع؟ وإن ظهروا جميعاً فهل مستوى الظهور متساوٍ ومتناسب كما يريد كل فرد؟؟
اختلطت الأصوات، وامتزجت اللهجات واللكنات، وتزايدت الدعوات، وارتفع الضجيج حتى ضج الضجيج ذاته، ظهرت الروائح الغريبة والمعروفة المألوفة على السواء في صعيد واحد، تجمع الناس في الساحات واتفقوا على الموعد..، والزمان، والمكان، واختلفوا في الرؤى والآليات والشعارات اختلافاً أدى إلى التكفير والتخوين، حملنا أعلامنا وشعاراتنا ولهجاتنا وأفكارنا، تعاركنا حتى سقط الجميع مغشياً عليه، نهشنا الذباب، وحلق علينا الجراد، وامتص البعوض نقي الدماء. أفقنا لنجد أنفسنا متجاورِين، أيدينا متشابكة متحدة (لا إرادياً) عيوننا شاخصة تنظر في اتجاه واحد وكأنها مركزة على بوتقة أو شيء محدد. اللافتات، والأعلام، والشعارات والملصقات كلها تكوَّمتْ في انتظام وعلى غير انتظام، لكنها جميعاً متقاربة في مواقعها وكلها تعصفه الرياح وتعبث به. مع هول المشهد وروعته في آنٍ واحد، ومع لذة الشعور بالإفاقة من الغيبوبة، تحسس كلٌ منا صاحبه، هل أصابه مكروه؟؟ اطمأن الجميع على السلامة، صفقوا، حمدوا الله تعالى، رقصوا، تأكدوا مطمئنين أنهم ما زالوا على قيد الحياة وأن أعضاءهم قادرة على التحرك وحواسهم ما زالت تعمل، حينها التفتوا التفاتة واحدة وكأنهم قد تبرمجوا على تلك الحركة التفتوا إلى الأعلام واللافتات والملصقات، غير أنهم لم يأبهوا، لها فقد هالهم ما كانوا فيه من غيبوبة كادت أن تخرجهم عن الحياة إلى البرزخة بديدانها ورميمها. لم نلتفت ما الذي أصابنا بالغيبوبة ولا كيف أفقنا منها.
في آخر الليل ومع تباشير السَّحَر ظهر ضوء الفجر الأول، فأدركوا أن أعلامهم مزركشة ملونة. تسابقنا ننفض عنها غبار الليل لنفرشها أمام ضوء الصباح قرباناً يتنفس من خلالها أملاً في غدٍ مشرق ينطلق فيه الجميع إلى العمل بلا كلل، كلٌّ وفق تخصصه ومهاراته، داعبهم الشعاع بالخيال. أطلَّ علينا قرن الشيطان، نفث في وساوسنا جمال الملصقات وبهرجة ألوانها، وهي حقاً جميلة رائعة تستحق أن تكون تاريخاً يتعظ به ويستفاد منه، إلا أنهم ما إن وصلوا إلى بوابة التاريخ حتى تَمَلَّكَت الجميع نزعة (الأنا) وبرزت التساؤلات في صوت مبحوح: مَنْ هو أول السالكين؟ بأي لونٍ يجب أن يظهر التاريخ؟ ما لون السيارات في الشوارع..؟.
اتفقوا على أن يعودوا إلى ساحتهم لعلها تمنحهم غيبوبة جديدة يغيبون فيها عن الوعي، غابوا عن التطور، وتخدرنا مغناطيسياً لنبقى على قيد الحياة لا نملك إرادتنا. هذه المرة الأعلام والملصقات ثُبِّتَتْ في وكر النسور، وعلى مقربة من أعشاش الغربان، وصوَّت عليها طائر البوم، وباركتها الفئران، غير أنَّ الرياح لم تعصف بها، بل أضحت تعصف بالبشر أنفسهم، أمَّا الأعلام والملصقات فهي تسخر منهم، ترقب الحال من قمم الجبال، تأكل مادة ألوانها لتذيبها مسحوقاً رمادياً يكون لعنة من لعنات الزمان.
في كل الأوقات كان الضجيج سيد الموقف، والمسيرات والفعاليات المختلفة برهان الحال. ويقال: إن الصور والأحداث والأصوات تبقى معلقة بين الأرض والسماوات، تتراءى لأصحاب الكواكب العلية من الكائنات الأخرى، فيقرأون التاريخ، ويستخلصون العبر، ويتعظون بما شاءوا ويرسلون الباقي في إشارات الكواكب وإيحاءات أبراج السماء. وربنا الرحمن المستعان علام الغيوب من قبل ومن بعد.
مع كل إفاقة وبعد كل غيبوبة، أيًّا كان سببها، أو مصدرها، أو نوعها، أو مدتها، نفيق فيتحسس بعضنا بعضاً، نذرف الدموع على ما فات، يحس الجميع بنشوة الحياة ولذة اللقاء الهادئ المطمئن. ثم تعود النفثات والنفخات في ثوب جديد وملصق جديد، يستمد رؤيته من الملصق الأول، بصرف النظر عن صانع الملصق أو مستخدمه. هذه المرة اتفقوا على أن لا ينفردوا بالفرحة، وأرادوا أن يحضر المحيط القَبَلي والإقليمي، فتمَّ لهم ما أرادوا فرحوا وانتشوا بسكرة الحياة وتَدَفُّق الأمل. استقر رأي الجميع أن تكون لهم سوقاً مشتركة ومسجداً جامعاً للجمعة وللأعياد، وقبَّةً برلمانية ينشرون غسيلهم تحتها في شفافية دون مواربة ولا وجل، ودون أحقاد ولا كراهيات. فاجأهم مسئول برلماني بتلقيه دعوة من تجمعات محيطة إقليمية وقَبَليَّة للدخول في حلف يجمع الجميع ويتسع لهم، وليكن المسجد الحرام مسجد الجميع وقبلَتَهُم، والأمر كذلك في حقيقته. اتفقوا على الموعد والزمان والمكان، حضروا كالعادة كلٌ منهم معه بيرقه، وملصقاته قد جُدِّدَت، واستُخْدِمَتْ مكبرات الصوت..، والفضائيات...، والانترنت..، والفيس بوك وتويتر، والصحف اليومية المدعومة بصيغة أنها (مستقلة)، والصحف الحزبية التي لا (تعبر عن رأيها) وكل ما تنشره يعبر عن (رأي كاتبه)، والصحف الرسمية جاءت ثقيلة الخطى كئيبة حزينة ليس فيها رائحة ولا لون مستمد من بيئة شعبها. جاءوا يحملون آمالاً وآلاماً وتناقضات بعضها عفا عليه الزمن، والآخر يجب التوقف أمامه بصدق وبتجرد من الأهواء والنزعات والمكايدات. رفرفت الأعلام، واختلطت الأصوات، وامتزجت الأهازيج أُعْجِبَ كلُّ فريقٍ بما يخصُّه من البيارق، والملصقات، والأهازيج؛ فأحس أنه قوي لأنه سمع صوت نفسه، وكأنه ينطبق علينا قول المثل العربي: ((كل مجرٍ في الخلاء سابق))، وفي رواية ((يُسَرُّ)). أعجبتنا ملابسنا وأزياءنا. شَعَرْنا كأننا تَمَلَّكنا التاريخ اليوم، خالط هذا الشعور نفسَ كلِّ فردٍ منا، فقد اكتشف كلٌّ منا فجأة أنَّ له تاريخاً وتراثاً تُمَثِّلُه العادات والألوان والأزياء والأهازيج ونحو ذلك، وهي – جميعاً- بقدر اختلافها فهي متقاربة لأنها صدرت عن مورد واحد وخرجت من مشكاة واحدة، غير أننا طمسناً عينها لِنُبْقيَ على فرحة العثور على ذاتنا الممزقة. أحس كلُّ فردٍ منا أنه الأوفر حظاً، ونصيباً، وثروةً، وعلماً. وأنه أكثرهم تحملاً لتبعات الآخرين، وأنه المظلوم (الآن) وسيبقى مظلوماً إنْ بقيَ كذلك، بل وانطلقت صيحة موحدة ((لن نؤمن لك حتى تأتينا بقربان تأكله النار)). كلٌّ يتمسك برأيه وموقفه وغائلة نفسه. لم يفكر أحدٌ من هو الظالم؟؟ وما هو الظلم؟؟ ومَنْ ساعده وهيأ له استمراء الظلم وتوقيعه بالآخرين؟؟. ليدرأ الجميع الظلم، يدرأ الظلم ذاته.
مع أنَّ لحظات الانتشاء كانت يسيرة وتمرُّ سريعاً دون أن تكمل يومها إلى غروب الشمس إلا أنها كانت قد آتت أكلها وأنضجت ثمرتها سريعاً، وكأنها بذرة سحرية غرسها إبليس منذ زمن فهو يتعهدها بالسقي والرعاية، ينتظر أمر إطلاقها، ثم لتمت آخر كل نهار. مع هذا الإحساس عادوا إلى الاختلاف. بدا سياسي محنك مشهود له بالحكمة والفطنة والدهاء والذكاء، وظهر ممول يغرق في الأموال مصاب بعمى الألوان لا يرى الفقراء والمحتاجين ولا يصيب مشاريع التنمية المستدامة. أمر بالأموال فصرفت واستعان بالسياسي فأعانه وتَكَوَّنَ حِلْفٌ يسير العدد كثير العدة قوي الأثر، فقد رأوا أن هؤلاء القوم يختلفون ثم يخرجون من الحياة إلى غيبوبة ثم يعودون. وهم قد تعبوا من غيبوبتهم ومن عودتهم إلى الحياة يتلمسون طريقهم. أقرَّ السياسي المشروع وموَّله المترف، وخلاصته في بيان فكري: لماذا لا نستمر نصيح ونضج طوال الحياة ننادي بالوحدة العربية الإسلامية؟! بل لماذا لا يصنع كلٌّ منا لنفسه مسألة، نصنعها ونعيش في فلكها وفق مدارات محسوبة لنا جميعاً؟ نعيش على الاختلاف لنبقي على حلم الاتفاق،!! نتفرق لنحلم بالاجتماع!!، نعيش بالخصام لنتمنى الوفاق!!، ننشر الجهل المنظم لنحترم علم الآخرين!، لننفق أموالنا على الولعة والقات كي ننظر باحترام إلى دفتر التوفير!!!، لنطفئ الكهرباء فنستمتع بلعن الظلام وانتظار الضياء..
أليست فكرةً رائعة؟ رحَّبَ الجميع وصفقوا، واصطفوا سريعاً يتشاتمون ويتنازعون، وبلمح البصر أصبح لكل فريق مَنْ يُمَثِّلُه في اللقاءات العامة. الجميع بلا استثناء يفتتحون أحاديثهم بقوله تعالى: (إنما المؤمنون أخوة) يقولونها بصوت مفخم قد اكتسى الرهبة والخشوع المصطنع. ثم يردفون: (يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة) ثم يصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم – وفي نبرة مميزة له عن نبرة أداء القرآن يتلون قوله: ((المؤمن أخو المؤمن)). ولكثرة تداول هذه الأقوال وغيرها بصورة تلقائية ومرتبة فقد قدَّمَ السياسيُّ مشروعه أن تكون هذه الكلمات ديباجة رسمية لكل أحاديث الدولة ومسئوليها وموظفيها، وأن تُطْبَع على كل الأوراق التي في البلاد، وضربت على العملات المحلية المتنافرة، ورُسِمَتْ أيقوناتها بخط بديع وصور مختلفة على الأعلام والملصقات، وشعارات الأحزاب، وأصدر القاضي فتوى وأمراً بوجوب تلاوتها مع كل أذان لكل صلاة، وترتيلها بخشوع عقب كل صلاة، وأن تُتْلى جهراً، جماعات أو فرادى. بعد تداولات برلمانية واجتماعية، وتدخل منظمات المجتمع المدني أصبح النشيد الوطني والترتيل الديني الآتي واجباً قومياً ووطنياً: (إنما المؤمنون أخوة) (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (كلكم لآدم وآدم من تراب) ثم يترنم الجميع بقول الشاعر:
تأبى العصي إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحادا
ثم يصيح الإمام أو من يمثله: العدل أساس الحكم.
لم ندرك أننا نمارس طقوساً لا شعائر تعبدية، ولا أفعالاً وطنية، ولا هي تمثلات روحية أو فكرية، لم نلتفت إلى أنها غير شرعية فشرعنت، وغير قانونية فصدرت من قانوني سياسي، فَرِحْنا بتلقي المعونات، ولم ندرك أننا نحتسي نار الذل والتفرقة، وأننا نرشح عَرَقاً منتناً يظهر في التمايز والتعامل بتقزز مع الآخرين بصرف النظر عمن يكونوا. لم ننظر إلى المشكلة/ المشاكل ذاتها بشفافية ليعلم الجميع من وضع لهم الحساء بهذه الطريقة.
د. أمين عبدالله اليزيدي
صور تذكارية 1900