هذا الوطن طال ليله فينا، كلما أتيناه فرحاً رأينا من يترصد هذا الفرح ويعمل على عقره ليبقى الألم رابضاً، وتبقى الحياة طقساً حاد التقلب يعكر الإنساني ويعيقه من التقدم بفعل من لا يريدون لنا السفر الجميل إلى معالم التجدد والنهوض،وبفعل نفسياتهم التي لا يحلو لها إلا المقام بين الدمار ورؤية العالم غير مرتب،ويقلقها كثيراً كلما رأت بارق غيث وموسم مطر يفرح الأطفال وتزهر به الأرض،لذلك دوماً تخلق المشاكل وتتخلق فيها وتدعو للخير، وهي تصدر الألم بقوة إلى كل عابر سبيل.
وهذا الوطن الذي ندعو الله أن يقيل عثراته ويمنحه نقاوة ضمير أبنائه لتعايش أجمل،مازال يقع بين حين وآخر في اللامستقر وكلما أراد النهوض إلى الأمام أدماه الشوك ومن يجهزون على الأمل بكثير من العدائية للآخر، حتى كاد التعب هو المستقر الذي يطالنا فيه، بفعل من يستخذون للظلام ويتناد مون معه وفيه لكيفية المزيد من الإحباط !.وإزاء هذا الغير سوي ليس لنا إلا أن نظل أقوياء بإرادتنا وتوقنا للغد مرصعاً بأحلامنا وقد أشرقت في الواقع، وليس لنا إلا أن نضيء الشموع ونعلن حبنا في وجه أعداء الحياة ونكون كما نريد في تطلعاتنا من أجل وطن يحق له أن يكون مهما كانت الصعاب والعراقيل ورغبات الماحقين في النيل منه،فثمة أمل يبقى في أشد اللحظات حلكة،ومن هذا الأمل يعلن الشعراء عناوين قصائدهم وهي من ماء السماء تكتب،ومن رغبات المقهورين تصاغ إصراراً على التكوين الرائع مهما تطاول الليل الذي أرق ذات زمن(امرؤ القيس) الملك الذي أرتوى نكدا وما فتيء يبحث عن هويته وقد أرادها الآخر قهراً وقتلاً. ولعلنا نذكر هذا اليماني المجهد بالأحلام وقوة العزيمة كم شكا من الليل وما فيه من أرق تارة وفجيعة تارة أخرى وبكى واستبكى نستحضر هنا قوله :
(تطاول الليل علينا (دمون )
(دمون) إنا معشر يمانون.
وإننا لأهلنا محبون
هذه الروح اليمانية المترعة بالحب والجمال لم تهن أو تيأس رغم كل الألم الذي نال منها وكل المشقة في السفر بحثاً عن ذاته في الوصول إلى الأخذ بدم أبيه، ومن أجل أن يعيد توازنه النفسي والاجتماعي، لذلك ترحل كثيراً وتغرب شمالاً وجنوباً وفي كل هذا السفر المرهق والغربة القاتلة، كان وطنه يسكنه ضميراً وانتماءً وهوية، ظل على علاقة معه لا تقبل التنازل مهما كان التعب والنكد. واستطاع أن يخلد هذا المعنى الوطني النبيل والرائع في تأكيده حبه لأهله اليمانيين ولوطنه، بهذا المعنى (امرؤ القيس) أنموذج حي وفاعل في التاريخ وفينا، إنه ضميرنا اليوم وهو التواصل العريق الذي لا يمكن إلا أن نستحضره في زحام المعاش ونأسى لحاله وقد طالها الأرق كثيراً، ومع كل ذلك يجأر ويشكو ويبوح بحبه يتحدث عن ليل طويل يبكينا فيه، ويشي بحبه للوطن ويفرحنا، وبين الليل وهذا اليماني الشاعر علاقة تجاذب وتخاطر كأنها نحن اليوم أطل هنا على قوله في معلقته الشهيرة (قفا نبك)حيث يقول:
(فيالك من ليل كأن نجومه..........بكل مغار الفتل شدت بيذبل)
والمعنى الليل طويل كأن نجومه شدت وربطت إلى جبل( يذبل)، وهنا نقف على العميق لهذا الجواب منفاه والباحث عن هدأة الضمير واستراحة المجهد والمتعلق مع كل هذا بوطنه (اليمن) تسكنه في حله وترحاله يغدو معها لايبات قرير العين ولا يستطيع النسيان لأنه محب لأهله، ولأن الفيافي والقفار ومعالم الحياة وما تكتنزه البلاد من تنويعات رائعة، تبقية على ارتباط وثيق مع أرضه ومسقط رأسه. هكذا يبقى(امرؤ القيس) معنى سامياً للوفاء الوطني ومعنى أكثر من رائع وهو يعيش مع غربته وطنه، إنه اليماني فينا الباحث عما يريد. وطنا خاليا من الجراح والهزيمة والوجع، وطناً لا يستبد بمحبيه ولا يغرق في الظلام ولا معنى للزمن من دون اليمن ويزداد الليل وحشة وقلقاً وطولاً، لا يريد الانزياح حين يكون مغترباً. وهكذا نفقه جيداً مدارج الحب الذي لم يكن (امرؤ القيس) إلا في مستوى التعلق الصوفي بوطنه اليمن، وما معنى الحياة بلا وطن؟إنها منفى وهو فعلاً يصرح هكذا حين يمر على قبر غريب ليخاطبه بكل هواجسه ومخاوفه من الغربة وفراق الوطن يقول:
( أيا جارتاه إنا غريبان هاهنا............وكل غريب للغريب نسيب)
والغربة لديه تعني الوطن بعيداً عنه...
ونحن يا (امرؤ القيس) غرباء، حين لا نعثر على حلمنا ويبقى الوطن فينا خالياً مما نرجوه، وليله طويل موحش قفر، وتقلبات المراحل هي التي تحاول أن تقهر ما نريد عبر من يبحثون عن ذواتهم ويفقدون وطناً وهؤلاء وحدهم من يفعلون في القلب منافياً لا حصرلها، ويريدون اليماني مغترباً على الدوام حين لا يجد ذاته بفعل ركام المعاناة الكبير، وإذا كنت أيها الشاعر الرزين الرصين الوفي قد أعلنت انتمائك الوطني وأنت في البعيد البعيد ولم تجد ليلاً تستريح إليه لأنه ليس ليلاً ونجوم الوطن لا ترصع سماؤه، إذا كنت كذلك. فنحن أيضاً نتساوق في الهم نعلن غربتنا حين لا نجد وطناً يشبه الروح،وحين يمارس عليه القهر من يسطون على الحلم والأمنية ومع كل هذا الاغتراب، نعيش الوطن في كياننا كله، أنه دورتنا الدموية،حلمنا النقي، مستودع الفرح، نعيشه ولابد أن نسعى لتكوينه والانتصار له ولنا، ويا امرؤ القيس من غربتك ومعاناتك الطويلة قرأتنا بعمق وعرفنا من تجربتك ورحيلك اللامستقر على حال معنى الوطن نبضاً، لذلك ليلك هو ليلنا تماماً، ونجوم تتوسمها في سمائه هي نجومنا، منك نرحل قصيدة إلى ما نريد حتى ونحن منفى، سيبقى الوطن خلاصة حب،وعنوان رقي أنت قلته شعراً ونحن نردده معنى، وبيننا وأنت مسافات زمان ومكان ورابطنا في كل هذا الشدو المهذب للوطن، وهو ما ترحلت فيه ورحلنا نحن معه، ولكأنك يا سيد الشعراء وأكثرهم ملكاً ومملكة، وغياباً وحضوراً، وفقداً وجزعاً. لكأنك ذات اليماني اليوم الذي يسعى لخلق مساحة حلم جميل يرتاده بعد طول عناء واغتراب، وهل يكون اغترابك سوى وطن نأى عنك ومسكون فيك،وهو ذات الحاضر بالضبط في حلنا وترحالنا. لذلك تأتي أنت من بين العصور السحيقة وتنال من وجعنا وتهز حبنا لنبقى رغم المرهق ننشد حياة، ونستحضر جمال، ونفقه معنى الرحيل والغربة والمنفى،حين يكون القهر والمستبد ما يجيء وقد رفضته أنت ورفضناه نحن أيضا،أنت تبحث عن ثأرك لتعيش كريماً وشريفاً وتتجشم الصعاب وتحرق المسافات،ونحن نبحث عن مفقود هو الوطن ونجاهد لأن يكون واقعاً نخرج منه إلى ما نريد، ونقبل بالقصيدة والزهرة حين تكون في الوطن واقعاً. وإذا الغربة هي الغربة حين لا وطن، وعلينا وأنت قبلنا من سعى إلى ذلك أن نتجاوز هذا الاغتراب باستحضار الوطن ورفض كل ما يقهر الحلم ويعمل على إزاحة الجمال،سنبقى والحال كذلك نسير في فلك الرغبة الإنسانية وهي سمو ونشيد حب، وتطلعات بشر طيبين يستعيدون ذواتهم ويخلقون علاقة حميمية مع الوطني اتصالاً لنفي الاغتراب منهم كبشر يحق لهم أن يفرحوا ويعيشوا زمنهم كما يجب خالياً من الليل الطويل الذي شكوت منه أنت يا امرؤ القيس وفهمناه كمعنى حين وقعنا في ذات الأرق.
وإذاً ما نرجوه ليلاً هادئاً مليئاً بالسكينة والجمال وليس برغبات من لا يريدون للوطن الفوز بالوطني، ما نرجوه أن نظل على اتصال بمعناك الرائع (إننا لأهلنا محبون).
محمد اللوزي
وطن طال ليله فينا !! 2244