يقال أن أعمى ردَّ الله عليه بصره برهة من الوقت فلم يرَ أمامه إلا جحر التيس ( دبر التيس)، ثم عاد إلى ما كان عليه، فرح الأعمى - ولا شك - بأنه رأى النور ولو للحظات، وتثبت في ذاكرته ومخيلته الصورة التي فتح ناظريه عليها، فكان بعد ذلك يستمتع بأحاديث القوم ولكن بطريقته، فإن تحدثوا عن مكان قال: أين هو من جحر التيس؟ وإن ذكروا اسم شيء عظيم كالجبل قال: كم حجمه مقارنة بجحر التيس؟ وهكذا أصبح جحر التيس مقياساً لكل معلومة ترد إلى الأعمى.. طبعاً الأعمى معذور، إلا أن الذي لا يعذر أن يكون صحيح النظر سليم الحاسة وهو مع ذلك لا يبصر ولا يرى إلا جحر التيس، ويبدو أن هذا مرض عضال تُبتلى به الأمم والشعوب في أفرادها ومؤسساتها وجماعاتها ونخبها الفكرية والسياسية حين يتملقون الفرد ويتزلفونه فوق قدره، وقد قيل: من نال إمارة فتكبَّر كان ما ناله فوق قدره، ومن نال إمارة وتواضع كان ما ناله دون غايته. هذا المرض التبليدي، مرضٌ يوجد لدى الناس جميعاً إلا الأنبياء والصالحين، وفي مختلف الأزمنة والأمكنة ويوجد المرض مستقراً كامناً في اللاوعي الجمعي لذاكرة المجتمعات.. من مظاهر هذا المرض في الأمة العربية المبجلة ومنها بلادنا الحبيبة تقديس الصورة وفي كل الأوقات والمناسبات وأنا هنا لا أقصد زعيماً أو شخصاً بعينه، تخرج المسيرات الحاشدة تأييداً لسياسي فرد أو حزب فتخرج المطابع آلاف الصور الشخصية وبمختلف المقاسات والألوان والأشكال للزعيم الوطني/ الحزبي/ القبلي... يخرج الطلاب للمطالبة بالكتاب المدرسي ويصطحبون معهم من الصور ( التي يقال عنها وطنية) أكثر مما يحتاجونه من الكتب التي خرجوا يطالبون بتوفيرها، تُسْتغَلُ قضية الأقصى وفلسطين في المناكفات السياسية واستعراض العضلات الجماهيرية؛ وأيضاً نصطحب الصور الشخصية لراعي المهرجان أكثر من الصور التي تُذَكِّرُ بما خرج الناس من أجله كما يدَّعون.
قد يحتاج السياسي إلى خروج الجماهير إلى الشارع قبيل أن تبث كلمته العصماء وخطبته البتراء في قمة عربية أو أممية أو مناسبة حزبية؛ فتُغطَّى الشوارع والسيارات والمساحات المخصصة للإعلانات بالصور الشخصية وبمختلف المقاسات والألوان والجوانب، تُـنتَهك حرمة أراضي الدولة أو الأراضي الخاصة فيتحرز المنتهِك بصورة الزعيم، يُنهَبُ المال العام باسم الزعيم وما يصحب ذكر اسمه من التصفيق حامي الوطيس.
سأل أحدُ الهنود وقد أتى زائراً إلى اليمن: لماذا كل هذه الصور المعلقة في كل مكان وفي جانبي كل عمود كهرباء حتى لو كانت الكهرباء طافية؟؟!! أجابه الدليل السياحي: هذه صورة المُلْهَم المُلْهِم، وتُعَلَّقُ للبركة والفبركة، وجلباً لمشاريع التنمية، وتشريع الأمنية. ودرءاً لمفاسد الطغاة وتنفيذاً للبرنامج الانتخابي. تعجَّب الهندي. ولمَّا رأى اليمنيُّ تعجبَه قال له: عندكم في الهند متى تعلقون صور قياداتكم وسياسييكم؟؟ أجابه في حِدَّةٍ وحنق: نحن لا نعلق الصور ولا نبالي أن نرى صورة الزعيم المنتخب إلا من برنامجه ومدى تنفيذ وعوده.
أخبرني صاحبي بالحكاية. عدتُ إلى نفسي متحسراً: أنحن أغبى الشعوب أم أذكاها؟ لا أدري! أنحن أسرع الاقتصادات نمواً أم أردؤها؟! أجامعاتنا في مصاف الجامعات الدولية أم في الهمل منها؟! وانهالت الأسئلة وسالت الدمعة عبرة وحسرة؛ أهذا حالي وحال بلادنا العربية! يا عجباً ننتظر أربع سنوات لِيُطِلَّ علينا الشخص ذاته في ثوب جديد، وربما نفس الثوب، وتُطْبَع ملايين الصور وبأرقى المواصفات وفي أجود أنواع الأوراق وأزهي الألوان، في الوقت الذي لا يصل الكتاب المدرسي إلى يد أبنائنا! أننتظر فترةً انتخابية تامةً غير منقوصة، إلا ما ترفلت بزيادة لنتداول الأقوال والمشاريع والبرامج ذاتها؟؟!! وليقال لنا كل مرة: سنبدأ عهداً جديداً، عهد الحرية والديمقراطية وحقوق المرأة وحقوق الإنسان. سنوفر العمل للعاطلين وسنفتتح كل عام مائة مشروع استراتيجي، وسنبدأ بداية جديدة في الإدارة، وانتهى عهد الفساد،.. الخ فقد أصبحت كلمات معروفة معهودة عند كل السياسيين العرب وأنهم يتمثلون قوله تعالى: (( أتواصوا به بل هم قوم طاغون)) ثم نكيل التُّهَم ونستخرج الأعذار طوعاً ورغبة؛ أمَّا التُّهم فلِمَن أراد أن يوضح أو يبين بصرف النظر عن نواياه، فقد أصبحنا خبراء في تفسير النوايا وترك الظاهر لنستخرج له الأعذار.. غضب مني ونهرني وقال: أنت حاقد لا ترى شيئاً من المحاسن فأنت كما قال الشاعر:
وعين الرضى عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساوئا
قلت له : أأنت من تعز؟ قبل أن يجيب واصلت السؤال: من كان يمتلك القدرة على قصف تعز؟ أجابني مزهواً بسرعة بديهته ودقة جوابه وصواب قوله: الظاهر أن الذي يمتلك السلاح الثقيل الزعامة، بس لا يوجد دليل على أنها التي دمرت تعز، أو حتى أسهمت في تدميرها، علمتُ حينها أنني أحدث صديقاً له صلة بصاحب التيس، قد زاد ثقافته باعاً في تأويل الظاهر والباطن.
سكتنا هنيهة قبل الوصول إلى الساعة السليمانية، فقد خضنا لجج الجدل والاحتجاج وأدلى كل منا فيه بدلوه، وعَلِقَه ما فيه الكفاية مِنْ قَذَرِه، ولم يسلم أحد من غثيانه، كان الجميع كما كنت أعتقد ينتظر مثقفاً يعيش بيننا ولم يُسمَع له تصريح لمدة عام فيما أعلم؛ مع الغروب ومع احمرار الشفق وقد أذنت شمس يومنا الطويل الممتد الشديد، قد تفنن فينا معاناة وأسفاً وألماً كل منا بأسلوبه وطريقته وكلٌّ على ليلاه يغني، لم يقطع سكون الساعة السليمانية إلا تملل المثقف، زاد الوجوم وكأن على رؤوسنا الطير، ثم قال: قد علمتم أنَّما تمر به البلاد العربية كان أمراً شبه حتمي لما وصلت إليه أحوالها، حمدنا الله أنه نطق أخيراً ولم ينطق إلا خيراً.
ترى هل نحن على أبواب عهد جديد لا ترى فيه تعليق صورة لزعيم أياً كان سبب مناسبة تعليق الصور؟؟ أنستطيع أن نعيش بوعي فكري وسياسي يُطالِبُ فيه المواطنُ المسئولَ بوثيقة تتضمن برنامجاً مكتوباً لوعوده؛ مُزَمِّناً تنفيذها؛ لتكون وثيقة رسمية يُخاصَم بها الزعيم ومن خلالها إلى نفسه وإلى جماهيره الناخبة؟؟ أم ترانا سندخل يوماً مكتباً رسمياً فلا نطالع فيها صورة شخصية بل تبهجك خارطة اليمن والجزيرة العربية قد اعتلاها لوحة فنية كتب عليها نص قرآني أو لفظ الجلالة؟؟.
- جامعة حضرموت
د. أمين عبدالله اليزيدي
الأعمى والتيس 2040