إن الاعتصام في الساحات مثّل المظهر الأساس للثورة السلمية، والعلامة الفارقة في قدرة الثورة على الصمود والفعل الثوري الرئيسي في منطق الثورة، وكان الإصرار على الاعتصام شعاراً دائماً في فعاليات الثورة يوم الجمعة، حين تتماسك الأيادي وتتشابك الأكف في شارع الستين مرددة الشعار الموحد: اعتصام اعتصام حتى يسقط النظام.
واستندت الثورة في اعتصامها إلى مخزون ديني وثقافي هائل كان في مقدمته اعتبار الاعتصام لون من الجهاد السلمي والنضال المدني في استرداد الحقوق المنهوبة والدولة المغتصبة من عائلة لا ترقب في مؤمن إلا ولا ذمة، ذلكم المخزون الثقافي اعتمد أساسا على ركيزتين أساسيتين، أولاهما: ركيزة الوازع الديني في نصرة المظلوم والرباط في سبيل الله لأخذ الحقوق، والخروج من البيت إلى قارعة الطريق كما جاء في الحديث الشريف، فعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشكو جاره، قال: "اطرح متاعك على طريق" فطرحه، فجعل الناس يمرون عليه، ويلعنونه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله لقيت من الناس! قال: "وما لقيتَ منهم؟" قال: يلعنونني. قال: "قد لعنك الله قبل الناس" فقال: إني لا أعود. فجاء الذي شكاه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: "ارفع متاعك فقد كفيت" رواه الطبراني والبزار بإسناد حسن بنحوه إلا أنه قال: "ضع متاعك على الطريق، أو على ظهر الطريق" فوضعه، فكان كل من مر به؛ قال: ما شأنك؟ قال: جاري يؤذيني. قال: فيدعو عليه، فجاء جاره؛ فقال: رد متاعك فإني لا أؤذيك أبدا.
وقد لقي صالح نبذ العالم كله له ولأفعاله، وإدانتهم له ولما يقوم به، وتبرأ منه العالم كله فصوت مجلس الأمن بالإجماع على نقل السلطة، معلنا وقوفه مع الشعب اليمني ضد صالح ونظامه، فتبين صدق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحكمة الفعل الشرعي في الخروج إلى قارعة الطريق حتى يزول الجار المؤذي فكيف إذا كان هذا الجار حاكما وأذيته عامة للجميع.
أما الركيزة الأخرى فهي التجربة المتراكمة لشعبنا العظيم مع صالح ونظامه، فصالح على مدى ثلاث وثلاثين سنة، وهو لا يفي بوعد، ولا يلتزم بميثاق، وعادته المستمرة نكث العهد، وخرق المواثيق، وهذه التجربة الطويلة جعلت هتاف الثوار والثائرات: ما تعبناش ما تعبناش الحرية مش ببلاش. وأعطت الثوار والثائرات بوصلة الطريق نحو تحقيق أهداف الثورة فلم تلن للثوار والثارات عزيمة ولم تزدهم الأيام إلا صموداً ولا طول البقاء إلا تجلداً.
لقد كان الاعتصام سلاحاً فتاكاً أتقنت الثورة في إنجازه والالتزام بسلميته، ومثل الاعتصام الوعاء المكاني العام الذي استوعب الثورة بكل أنشطتها، ففي ظله تحركت أنشطت الثورة ومن خلاله توسعت الثورة وبواسطته أثبتت الثورة قدرتها على الصمود أمام كل الأعاصير المادية والمعنوية والتي تعددت أشكالها وتنوعت صورها بقيت حشود الشعب معتصمة في الساحات معلنة البقاء حتى يرحل النظام.
إن الاعتصام في الساحة هو أكثر ما أزعج النظام، ولذلك كان يشترط رفع الاعتصام في كل مبادراته وأطروحاته في جميع مراوغاته ومكره وخداعه، ولكن الشعب العظيم صمد أمام آلة القمع من البلاطجة الذين قتلوا وحرقوا وفعلوا المنكرات في الليل وفي النهار، وقوات السلطة التي قتلت واعتدت وحاولت اقتحام ساحة التغيير مرارا، وضربت الساحة بقذائف الهاون لعلها تخيف الناس فينهون الاعتصام ويهربون من الساحة؛ فلم يزدهم ذلك إلا إصرارا، وأظهر الشعب عزيمة جعلت جبل نقم يبتسم لجبل عيبان من الثبات والصبر والعزيمة التي سطرها الثوار في الساحة برغم كل الإرهاب الذي مارسته السلطة ضد الشعب المسالم، في اعتصامه السلمي.
ومنذ أول أيام الاعتصام حاول النظام أن يلصق التهم بالمعتصم وهو ما جعل صالح شخصياً يقود حملة إعلامية تشويهية ضد الاعتصام قادها بنفسه، فاتهمهم بأنهم عطلوا مصالح المتاجر المحيطة بالساحة وهو ما كذبه الواقع وهو ما حمل الشيخ عبد المجيد الزنداني أن يزور الساحة ويعلن على الملأ وشاشات التلفاز عدم صحة القول بأن المتاجر تعطلت فهو يراها تمارس نشاطها التجاري بكل يسر وبزحام برغم وقت الظهيرة الذي تقل فيه ـ عادة ـ حركة التجارة.
إن الاعتصام في الساحات والصبر فيها والثبات في المعتصم هو ما دعا فضيلة الشيخ الزنداني أن يعلن عن استحقاق الشباب براءة اختراع لهذا المنجز العظيم الذي أنجزوه وهو الاعتصام وسلمية الثورة، وهو ما عجز آباء الثوار من الوصول إليه، وأن الثوار اهتدوا إلى وسيلة أنجزت الثورة وحافظت على البلاد من الانجرار إلى مربع العنف، مؤكدا أن الاعتصام السلمي حق دستوري كفلته الشريعة وأقره الدستور اليمني، وهو ما أكده بعد ذلك بيانات هيئة العلماء، وجمعية العلماء الرسمية قبل أن تتحول تلك الجمعية إلى أداة للنظام السابق في إهدار دماء اليمنيين في الفتوى الفضيحة.
إن الاعتصام قدم درساً لن يمحى من الذاكرة الجمعية اليمنية في انتزاع الحقوق من جهة وفي القضاء على الاستبداد وإنهاء حكم المستبدين من جهة أخرى، فقد صمد الثوار والثائرات على مدى عام كامل بكل ما فيه وما احتواه، وهو ما دعا إمام الحرم فضيلة الشيخ السديس أن يصف الثورات العربية في ربيعها العربي بصفات عديدة واختار لليمن قوله: وصمودنا يمني.
إن الصمود في الاعتصام والثبات فيه جعل العالم كله يصل إلى قناعة واحدة مفادها أن الثوار والثائرات لن يرجعوا إلى بيوتهم حتى يحققوا أهدافهم، وأنهم أي الثوار يملكون من العزيمة ما لا يمكن إثناءه وأنهم لن يرجعوا إلى بيوتهم إلا وراية النصر خفاقة على رؤوسهم بفضل الله تعالى.
إن الرئيس التوافقي المشير الركن عبد ربه منصور هادي مطالب بالتحرر من الصمم السياسي الذي مارسه النظام البائد ليستطيع السماع لمطالب اليمنيين سواء من يعتصمون بباب بيته أو في مواقعهم أو داخل الساحات، فهو رئيس الاتفاق المحلي والإقليمي والدولي لتحقيق الأمنيات والمهمة شاقة وهذا قدر الرجال الكبار والله المعين.
د. محمد عبدالله الحاوري
اعتصام الساحات حتى تتحقق الأمنيات 2100