في إحدى زياراتي لمكتبة المخطوطات، وبينما أنا أقلب في العناوين إذ لقيت مخطوطة عتيقة أخذت مكاناً من المكتبة قصياً، فقلبتها فإذا هي مخطوطة تاريخية لكتاب البداية والنهاية، بدأت بتقليب صفحاتها فوجدتها كبيرة جدا، فأخذت جزءها الأخير، فإذا هو يتكلم عن زماننا، وعما جرى من أحداث في بلداننا في هذا العصر، فعلمت أنه التاريخ يدون نفسه، فإن كان ابن كثير رحمه الله قد توفي في القرن السابع فنفسه التاريخي حاضر، وهنا نكمل ما بدأناه في الجزء الأول.
فصل: فيمن انضم للثورة وانخرط في سلكها
وقد سبق أن ذكرنا أن هذه الثورة قد جمعت كل أطياف وأصناف الشعب اليمني، إلا أنه يحسن بنا ذكر بعض المنضمين لها لما لهم من أثر في قوة الثورة وحمايتها.
وذلك أن بعد يوم جمعة الكرامة التي قتل الشباب المعتصمون فيها قنصاً، انفض كثير من قادة الجيش ومشايخ القبائل والوزراء والكبراء، وكان على رأسهم اللواء علي محسن الأحمر، وهو رجل ذو هيبة وذكاء وحنكة، فكان انضمامه للثورة أكبر هزة في النظام، وذلك لإعلانه حماية المعتصمين من أي أذى، وسخر ما تحت يده من قوة وأتباع وسلاح لهذا الغرض.
وانضم أيضا كثير من مشايخ القبائل وكان أشهرهم الشيخ صادق بن عبد الله الأحمر، فانضم للثورة ودفع فاتورة انضمامه هو وإخوانه، حرباً ضروساً لا تقل قوة وشراة عن أي حرب.
وقد جمعت الثورة اليمنية كل الأطراف والقوى والتوجهات، فكثير من السياسين، وقفوا مع ثورة الشباب، وكذلك أصحاب المذاهب الفكرية المختلفة، فالإسلاميون واليساريون والحوثيون، والمستقلون كلهم قد دخلوا في الثورة ولولا طول الوقت لشرحت هذه المصطلحات ونذكرها في حينه.
?
فصل: في دور الشعراء والإعلام وتحريضه على الدم
وكان للشعراء والأدباء دورهم في هذه الثورة سواء كانوا مع الطاغية أو مع الثورة، فبرزت المواهب، وانتشرت الأشعار، والقصص، ودبجت المقالات، وساهمت منابر الإعلام على نشرها.
وكان أهم المنابر هي القنوات الفضائية، وهي أجهزة تنشر الصوت والصورة وتبث على الناس, فيشاهدونها من خلال صندوق في البيوت يسمى التلفاز، وتعمل على الكهرباء التي غالبا ما تنعدم على الناس في اليمن خلال هذه الفترة.
وكان للطاغية قنوات يفترون من خلالها على الشعب ويحرضون على المعتصمين، وكان يظهر فيها رجل يقال له: عبده الجندي كثير الكذب شديد التهريج، يهول القضايا ويهون من شأن الدماء، وربما كذب وافترى أخبار ملفقة ينصر بها الطاغية.
وبالمقابل كان للثوار قنواتهم وأبرزها قناة سهيل وهي قناة رائعة في جلب الأخبار وتغطيتها واستخدمت كل ما يمكنها استخدامه في مواجهة الطاغية، إلا أنهم كانوا يهولون قليلا وربما بالغوا في أخبارهم وتحليلاتهم.
ومن المنابر أيضاً منبر مهم ظهر في تلك الآونة وأسقط الدول والنظم، وهو الفيس بوك، وهو موقع شهير على شبكة الانترنت، وهي شبكة الكترونية صنعها الفرنجة جعلت العالم كله كقرية صغيرة فقل أن تجد حدثا في شرق الأرض وغربها إلا ووجدت صداه في الطرف الأخر من الأرض، ويمكنك من خلال هذه الشبكة معرفة العالم وإيصال رسالتك إليهم والتعريف بنفسك وفكرك وبلدك وعقيدتك في أسرع الأوقات، وأيسر اللحظات، وهو من العلوم التي فتحت على تلك الأقوام واستخدمها الثوار أيما استخدام فقل أن تجد شغبا أو كلاما أو حدثا إلا يصور من لحظته، وينشر في أسرع وقت، وكان لهذا الموقع أثر بارزاً في إسقاط حكومات سابقة كتونس ومصر، واستخدمها أهل اليمن بذكاء وحنكة ومثله من المواقع الشهيرة التي استخدمها الثوار تويتر ويوتيوب، وهي من أهم المواقع تأثيرا على العالم.
?
فصل: في احتراق طاغية اليمن
وبعد أن هجمت جلاوزة الطاغية وجنوده على المعتصمين في تعز، فيما عرف بيوم المحرقة، الذي كان يوم الأحد ليلة الاثنين من آخر شهر مايو، ارتفعت الدعوات ولهجت الأفواه والقلوب بالدعاء عليه، فعجل الله عقوبة الطاغية فلم تمضِ أيام إلا وتعرض لمحاولة قتل أصيب بها هو وكبار معاونيه وأركان نظامه بانفجار غامض كاد أن يودي بحياته، فأحترق جسده كما أحرق ساحة الحرية وأحرق المعاقين فيها، وكان ذلك يوم الجمعة الثالث من يونيو فيما سمى الثوار تلك الجمعة باسم جمعة الوفاء لتعز الصمود، وكانت عادتهم أن لكل جمعة اسم خاصا بها.
وجاء من فوره فريق من أمهر الأطباء، وأخذوه إلى المارستان العسكري في اليمامة بنجد، وعالجوه علاجا مكثفا، هو ومعاونوه.
زاد بعدها حقده وحنقه فأمر ولده بإحراق الأرض على أهل اليمن انتقاما، فقامت حروب شرسة ومتقطعة في مناطق مختلفة، شاركت فيها كل أنواع القتال، ولكن هيهات أن تخضع إرادة أهل اليمن لهم.
فصل: في مساعي عقلاء أهل الجوار وسعيهم في الصلح
كان لمجزرة الكرامة أثر كبير في إقناع الشارع اليمني بالثورة وضرورة رحيل النظام، لكن علي صالح لم يستمع لصوت الشعب وقرر خوض غمار مغامرات القتل والإجرام، فبطش بشعبه ونكل بهم عبر ما يملك من قوة ضاربة وأتباع وجنود، فاستقر رأي ولاة وحكام البلدان المجاورة لليمن من أهل الخليج العربي على الصلح بين أهل اليمن، خوفا من اضطراب المنطقة، وخوفا على مصالحهم، ورغبة في انتقال الحكم بشكل آمن، فعقدوا وثيقة للصلح أسموها المبادرة الخليجية، تنص على رحيل علي صالح ونقل حكمه لنائبه، واتفق العقلاء من أهل السياسة في اليمن عليها، واجتمعوا للتوقيع، لكن الطاغية لا يزال يمكر ويراوغ وربما أمر بلاطجته فحاصروا وفد الصلح، فلما حصل له ما حصل يوم الجمعة من محاولة قتل، وتهددت حياته، فمكث فترة ثم وقع على تلك الوثيقة التي عدلت مرارا من قبله، فخرج من حكمه بحصانة قضائية وسياسية ومعه من أجرم معه في فترة حكمه، وكان ذلك يوم السابع والعشرين من ذي الحجة آخر عام 1432ه الثالث والعشرين من نوفمبر والحمد لله أولا وآخرا.
وبهذا تنتهي فصول مأساة من حكم طاغية اليمن عسى الله أن يخلف لهم رجلا رشيدا يعيد الأمور إلى صوابها، ويحاكم المفسدين في الأرض ويولي الصالحين من أهل الخير والكفاءة.. والله قادر على أمره.
فصل: في بعض أخبار الروافض ودخولهم في الثورة
كان دخول الروافض في الثورة مبكرا، وكانوا يتسمون باسم الحوثيين نسبة إلى كبيرهم حسين بن بدر الدين الحوثي وهو رجل من آل بيت النبوة كان زيدي المذهب إلا أنه شذ ودرس في فارس فتشيع هناك، ثم أقام فتنة طويلة دامت أكثر سبع سنين في حروب متتالية مع الدولة، وأكثر أتباعه هم من الزيدية المغرر بهم، حيث أنهم تقنعوا بالزيدية وحب آل بيت النبوة وأخفوا ما يعتقدون من عقائد فاسدة، لكنها ظهرت مع فلتات ألسنتهم، وأفعالهم الخبيثة، فدانت صعدة بالكامل لهم، وكانوا يتسمون بأسماء وشعارات كالصمود وانصار الله وهم أبعد الناس عنها.
ولما طال أمد الثورة مل كثير من أتباعهم فخلت خيامهم في المعتصمات إلا من أفراد قليلين،
وكان خطابهم في صنعاء حصيفا فكثير ما تسمع منهم المطالبة بالدولة المدنية والحقوق، مع أن أفعالهم لم تكن كذلك.
كان لهم ترتيبهم الخاص بهم فقد رأوا أن الظروف مواتية للتوسع والتمدد فتمددوا شرقا فواجهتهم قبائل الجوف أشد مواجهة وأسكتوهم عن آخرهم، فانعطفوا غربا جهة البحر فلم يجاوزا عاهم وكشر وهي مناطق في مدينة حجة، أما في صعدة فكانت كلها لهم وكان من قراها قرية صغيرة اسمها دماج، كان بها معهد أسسه شيخ وقور ومحدث جليل، اسمه مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله، يدرس به طلاب علم الحديث ويسكنون بها، جاءوا من آفاق الدنيا زاهدين فيها راغبين بالآخرة، لم يحملوا سلاحا، ولا عادوا أحدا ولا أراقوا دماً، مع أن وجودهم هناك من نحو نيف وثلاثين سنة وهم متعايشون مع الزيدية والقبائل المجاورة لهم، ولكن الحوثيين ضاقوا ذرعا بهم واعتبروهم شوكة في حلوقهم وطريقهم فحاصروهم أكثر من سبعين يوما، منعوا عنهم الغذاء والدواء، فهلك بعض الأطفال والنساء الحوامل، ثم نكلوا بهم بحرب غير متكافئة، فرموهم بالمنجنيقات وما تسمى بالهاون وضربوا عليهم بأنواع الأسلحة التي لديهم ولم يدعوا شيئا يتحرك بها إلا قنصوه فلا حرمة راعوا فيها ولا دما، فهبت قبائل كثيرة من أقطار اليمن لنصرة المظلومين، وأرسل شباب الثورة من يستطلع الأمر فوجدوهم كما وصف سابقا فاستنهضوا الناس لرفع الحصار، ولم تكن تلك أول مخازي الرافضة بل مع ادعائهم الثورة إلا أنهم طعنوها مرارا من خلف ظهرها، مرة بالخروج من المجلس الوطني الثوري، ومرة بقتال أهل الجوف وحجة ودماج، ولم يكن شباب الثورة إلا سلميون، ومرات كثيرة باختلاق المشاكل في الساحات والمسيرات، حتى أسسوا ساحة خاصة بهم في السائلة في صنعاء، فلم يجدوا فيها إلا القليل من أتباعهم فبانت عورتهم وظهر حجمهم يومها فرجعوا إلى الساحة، فتبين لأهل الثورة أنهم ألعوبة بيد علي صالح يحركهم كيفما شاء، وظهروا على حقيقتهم.. والله المستعان.
كانت تلك آخر ما استطعت قراءته ونقله من تلك المخطوطة العتيقة، فغلبني النعاس، فتركت قلمي، واستسلمت للنوم. والله الموفق والمعين.
أرجو أن أكون موفقا فيما كتبت، ورجائي أكبر في إبداء الملاحظات.
Alshybani83@gmail.com
عبد الله بن عبد القادر الشيباني
ملحمة الثورة اليمنية من خلال البداية والنهاية 2/2 2096