غربت شمس الثلاثاء 21 فبراير وأرخى الليل أسدال حنانه على الشعب اليمني اليمني الذي استيقظ في الصباح قبل الشمس وتدافع للمشاركة في واحدة من أكبر الفعاليات الثورية المستمرة منذ عام بهدف إسقاط النظام العائلي الجاثم على صدر حاضرهم ومستقبلهم منذ 33 عاما حين تولى علي عبدالله صالح الحكم في 17 يوليو 1978م.
جاء علي صالح يومها كشاب طموح تجرأ على الكرسي رغم المخاطر التي كانت تحيط به مستفيدا من دول الجوار والولايات المتحدة الأمريكية التي رأت فيه الرجل المناسب بعد القلق الذي أثاره لديها الرئيس إبراهيم الحمدي الذي أبدى ميولا نحو توحيد شطري اليمن والشمال مع ميول لليسار. وهو الميول الذي اعتقدت الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة أنه قد يسلم الشطر الشمالي لقمة سائغة للاتحاد السوفيتي الذي كان يدعم الشطر الجنوبي ويسعى لضم الشطر الشمالي إليه ويشكل حلقة وصل بين الجنوب وبين دولة أثيوبيا التي كانت ضمن المعسكر الشرقي (يومها لم تكن أرتيريا قد نالت الاستقلال).
عدة أطراف في الداخل لم تكن أقل دعماً لصالح من هذه الأطراف الخارجية ولذات الأسباب، حيث تحالف معه أقوى الأطراف المؤثرة في المجتمع اليمني حينها، وهم: مشائخ القبائل، والإسلاميون والعلماء، ورؤوس الأموال والمستثمرون.
حظي الشطر الشمالي الذي يقوده علي عبدالله صالح بالدعم الخليجي والأمريكي اللازم، الأمر الذي ساهم -مع ما تحقق ممن مستوى الوفاق الداخلي- في خلق ظروف جعلت من عقد الثمانينات عقداً ذهبياً.
واستفاد صالح من التحولات والمتغيرات الدولية والظروف التي تعرضت لها المنظومة الاشتراكية لتحقيق الوحدة مستغلا الرغبات الوحدوية الجامحة لدى الشعب اليمني شمالاً وجنوباً ولدى الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان يقود الشطر الجنوبي.
ظل محتفظاً بعلاقاته وتحالفاته مع حلفائه القدامى للاستقواء بهم على شريكه الاشتراكي الذي تخلص منه بحرب 94م، ليستفرد بالحكم ويتربع على العرش ويبسط يديه على كل الوطن من أقصاه إلى أقصاه، وتوفرت له من أجل البناء والنهوض بالوطن فرصة لم يسبق أن توفرت له أو لغيره. إلا أن الرجل اختار الطريق الخطأ واتجه نحو استثمار تفرده في اتجاه الهدم وأغراه التفرد بالكرسي لتخالجه مشاعر التأله، وبدأ شيئاً فشيئاً يؤسس لتوريث السلطة لأفراد عائلته، واقتضى مخطط التوريث جملة من الإجراءات المدمرة التي أوصلت البلد إلى حافة الانهيار التام، فأنشأ الحرس الجمهوري الذي أسنده إلى أخيه علي صالح الأحمر، ومن بعده ابنه أحمد، وأحل هذا الجيش محل الجيش الوطني القديم الذي زج به في حروب صعدة لاستنزافه وتصفية قياداته وكفاءاته وإحراقه. وأسس جهاز الأمن القومي بديلا عن جهاز الأمن السياسي القديم الذي أغرى به حلفاءه المستورين من تنظيم القاعدة لبدأ ضباطه وقادته بالتساقط تباعا في عمليات قيدت جميعها ضد القاعدة. وأعلن الحرب على التيارات الإسلامية المعتدلة وأحل محلها التيار السلفي الذي ساعده على الانتشار في اليمن إضافة إلى العوامل الطبيعية المساعدة لانتشاره جراء ما يحظى به من دعم سعودي. واستبعد بالتدريج من المناصب الحكومية محترفي السياسة الذين كانوا يدينون له بالولاء وأحل محلهم هواة السياسة ممن يجيدون فن الركوع وبأثمان زهيدة.
واستفرد بالثروة وصادرها وأصبحت البلاد في يديه ضيعة مملوكة يبيع منها ما يشاء لمن يشاء ويشتري بها الولاءات ويلجم بها الأفواه، وارتفع سعر شوال القمح (50 كم) من نحو (260) ريالا إلى نحو (7000) آلاف ريال. ويقاس عليه غيره من المواد الأساسية، ولم يحفل بالانفجار السكاني الذي ظل يضخ مئات الآلاف من الشباب إلى سوق عمل خاوية على عروشها لا عمل فيها سوى تحمل هموم الفراغ.
استند إلى ما استحدث من وحدات الجيش والأمن، وما يلقاه من الدعم الإقليمي والغربي، واتخذ منه صرحا لعله –كما يظن- سيبلغ به إلى إله موسى فيقتله كما اعتقد قبله فرعون الأول، فإذا الصرح محض خيال، وإذا مشروعه الأسري محض حلم تكفلت بتبديده صرخة شعبية مطلع العام الجاري صدحت وجلجلت في الفضاء: "ارحل"، وبتعبير إبراهيم ناجي: "يقظة طاحت بأحلام الكرى".
لم تتوقف تلك الصيحة التي انطلقت من فم فرد يمني كان يرددها سراً حتى أصبحت كلمة الشعب التي يهتف بها بملء فمه ولا يتوقف عن ترديدها صباح مساء.
والرجل الذي يوصف بالدهاء وتمكن من اجتياز ظروف أواخر السبعينات رغم ما كان يفتقر إليه من الخبرة والمال والجيش العائلي والأمن القومي وشبكة العلاقات الداخلية والخارجية ومستوى الخبرة، أخفق من اللحظة الأولى في التعامل مع ظروف ما بعد 2000 رغم امتلاكه كل تلك المقومات، لأنه في الأولى (أواخر السبعينات) لم يكن سببا في تلك الظروف وكان يتصرف وفق قواعد السياسة وحسابات الربح والخسارة، فيما ظروف ما بعد 2000 كان هو سببا مباشرا فيها وصانعا لها ويتعامل مع تداعياتها وفق أنه هو الرئيس وحسب، يخطئ فيقال صواب، ويكذب فيقال صدق، ويرواغ فيقال داهية، ويعبث بالمال العام فيقال كريم، ويقتل غيلة ويضرب طرفاً بطرف فيقال راقص محترف على حلبة الثعابين.
سنوات طوال والشعب اليمني كالبحر يتمدد في حلم عجيب كلما جلدته الشمس بأشعتها، ويرد عليها برذاذ مائه بخاراً كلما أمعنت في إحراقه، وغرّ صالح بشعبه حلمُ الحليم، ولم يستمع إلى ناصح أو حكيم يحذره من الحليم إذا غضب.
انداح البحر طوفانا جارفا لم يعصم صالح منه جبل الصمع الواقف عند رأس العاصمة الكسيرة وجرابه مملوءة بالنار والبارود (تفيد التقارير أن في جبل الصمع نحو 40 في المائة من قوة الحرس الجمهوري والدفاع الجوي)، ولا جبل نقم وغيره من الجبال التي تحيط بالعاصمة مكشرة عن أنيابها بما امتلأت أجوافها من حقد، مقطبة حاجبيها في وجه صنعاء بما تشبعت به من ثقافة البغضاء التي سقاها منها صالح ورواها.
عام كامل قدم اليمنيون خلاله ثورة لا تزال مستمرة أذهلت اليمنيين أنفسهم قبل المراقبين والمتابعين، وجاءت كوردة بيضاء في الربيع العربي الذي غلب عليه اللون الأخضر الصارخ.
ورغم تقديمهم آلاف الشهداء والجرحى ورغم حزن ما يزال يعتصرهم على آلاف المخطوفين بكلاليب صالح.. رغم كل ذلك وما دفعوا من معيشتهم وأقواتهم وأمنهم ووقتهم، حافظوا على سلميتهم متخذين منها خيارا وحيدا قبضوا عليه –وما زالوا- كالقابض على الجمر.
ورغم التحريش بينهم وما عرف صالح من مكامن الاشتعال ومواضع أعواد الثقاب، فقد أفسد سيل الثورة ثقابه ومواد الاشتعال، وجلجلت قهقات الجبال المحيطة بصنعاء صدى يرتد من قهقهة "الصمع" وهو يقهقه ويقطّع قهقهته بـ: ألا بَطَلَ السحرُ اليوم.. يوم 21 فبراير!!
خرج مذموما مدحوراً لم تحن إليه أرض ولم تبكه سماء، ويؤكد اليمنيون استمرار ثورتهم واعتصامهم في ساحات الحرية والتغيير حتى يستأصلوا كافة رموز حكمه العائلي فيتركوا كراسي السلطة غير مأسوف عليهم ويلحق آخرهم بأولهم (وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عاداً كفروا ربهم ألا بعداً لعاد قوم هود).
Shamsan75@hotmail.com
عبدالملك شمسان
الشعب اليمني ينجز الفعالية الثورية الكبرى 2051