نتحد بالأمل ونفقه جيداً المعنى الجميل للصباح، ومعنى أن نرتاد مساحة الحلم تفاؤلاً، ليبقى الوطن ضرورياً لنا، يجعلنا ننتمي لذواتنا، وندرك أهمية العيش في المستقبل لنبقى أصحاء نفسياً وبدنياً.. هذا ما علينا أن نأتيه فعلاً، فلم يعد في الإمكان البقاء في التعب والمواجع المراقة الفرح، حد النضوب، مثل هذا يبقى مؤلماً إنسانياً، فلنا حياة علينا أن نرتادها ما استطعنا من التقوى لتكوين علاقة حميمية مع الواقع بكل ما فيه من تنويعات، أحياناً تمس شغاف القلب وأخرى ترهق الذاكرة.
وإذاً نحن نوقض ما كان قابلاً للحياة فينا، نعيده برسم جمالي يمتزج فيه الفنان مع إيقاع العالم، ليصيغ لوحته أو جداريته التي تحاول أن تزهر شيئاً يجعل السعادة لها طعم القادم الجميل.. في القادم تكمن حريتنا، معافاتنا، استعادتنا ما دمرته سنوات المصادرة للحلم والواقع، فيه نشعر أن ثمة سخاءً لابد أن ينالنا وأن يفيض للوطن بأسره، ليغدو في هذا الفسيح الأرجاء مرتباً، الزهرة بلونها الأبيض، والطفل في صباحه المدرسي بحقيبته، والشمس بإشراقتها الجميلة فينا، والنبع بجريانه الخيّر، والعامل بمطرقته في المصنع يسمح الصعب..
هكذا نرى إلى الذي يأتي، وعلينا أن نراهن على ذلك حينما نقبل على وطن يتعالى على المسف، لا يقبل بالوصاية من أحد على أحد، ولا بأي من الجاهزية في الأحكام والمحاكمة وتفتيش الضمير الإنساني والداخل فينا وإطلاق عقوبة الوجع لكي تبقى الحرية قاحلة في الوجدان.. مثل هذا لم يعد ممكناً لأننا اخترنا ما هو إنساني وقابل للانتصار من أجل الحرية والعدالة والمساواة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.. بهذا المعنى نحن وطنيون تماماً، نرفض التعالي بلغة جاهزة مصادرة معتقلة للعقل..
وإذاً ثمة ارتياد آخر يقهر المؤلم، يحيله إلى حالة مزرية ويواريه تماماً، إنه نحن بحضورنا فيناً أخلاقياً وانتماءً واعترافاً بالآخر وإيماناً بالإنسان كذات كرمها الله دونما إشباع نزوة في السيطرة والاستعلاء وخلق خصومات يقتات منها أولئك المدمرون من الداخل، من تستوطنهم الكراهية ويخرجونها بأسلوب الخديعة إلى الواقع، ليحدث الارتباك في وطن طالما أرهقته وطاويط الظلام، ومحقت عناوين سبئية كانت ستبدو أكثر بهجة لو أنها خلت من الاستبداد والمصادرة، وإن الآخر هو النقيض ويصل إلى مرتبة العدو، وليس من عدو لنا غير الإدعاء واحتكار الحقيقة وإحالتها إلى طغيان يكون فيه الباحث عن السيطرة هو من يلقي بظلال الأشياء علينا دون الأشياء نفسها، هو من يرتكب حماقة المعرفة وكأنها هو فقط ليبقى الحارس على مصالحه، وهو من ينوب الكل فيما يريدونه بمجرد استلاب البشر طموحاتهم وعناوينهم المستقبلية وفي حقهم أن يكونوا أحراراً وحياة تليق بالعصر الذي يفتتح أزمنة في زمن، ويقدم نفسه بلا مواربة عبر العلم والإبداع وليس التجهيل واختلاق مناطق للحكم تشكل حصاراً نفسياً ومادياً للإنسان الذي يريد أن يكون من حب وعدالة أمام القانون..
هكذا يبدو القادم شيئاً لابد أن يطاله الذين صبروا وتعبوا سفراً قاصداً إليه وما زالوا بذات الأحلام يتمنونه وعليهم أن يلامسوا هذا الحلم ويقتربوا منه ويكون هو فيهم.. وليس إذاً سوى رفض الإدعاء بالمركزية والذاتية المفرطة في نرجسيتها وتأليه الآخرين ورفعهم إلى مستوى أن يكونوا هم القوى (الفوطبيعية)، فيما الآخر طيع كيس يعرف حدوده وأين يقف.. هذه الحدود المصطنعة التي انبنت ذات زمن فات على شكل نظام، لابد أن يتم تجاوزها لكي يستمر السفر إلى الجمال برغبة وتوق لأن يكون الأفضل هو الذي لم يأت بعد، ولقد عاش الوطن زمناً صعباً كان فيه الرأي الواحد والذات الواحدة هي التي تصادر شعباً بأسره وحقه في التفكير والبناء والعمل، ولقد عشنا على الكثير من العناوين المستترة التي تريد امتلاكاً للحرية والحياة حين تصادر الرأي الآخر وتقدم نفسها في مستوى الحكمة، فيما الآخرون يعيشون ببساطة على قارعة الطريق مهما كانوا قدرات معرفية ومهما كانوا مبدعين.. لذلك كله قدم الوطن راياته الشبابية، أزهر من جديد وافتتح ربيعه الخلاق ليتجاوز المحبط إلى حيث يجب أن يكون خالياً من الرقابة وغرف التفتيش والعقاب لمجرد حلم الحرية، يجب أن يولد..
الوطن إذاً - وقد اشتغل على هذا باقتدار في فضاء الدهشة- عليه أن يتبوأ مقعد صدق، من خلال كل القوى وكل الجماهير التي من حقها أن تجد ذاتها وتحدد ما يجب عليها ولها.. الوطن اليوم يريد أن يكون في القادم وأن يحتفي بنفسه بعد عناء وأن يشعل الغرام على كل الخارطة اليمنية بلا فواصل أو محددات مسبقة لكيفية يريدها الآخر فقط .. الوطن اليوم في القادم يريد أن يكون وأن يحتفي بنفسه بعد عناء وأن يشعل الغرام على كل الخارطة اليمنية بلا فواصل أو محددات مسبقة لكيفية يريدها الآخر فقط.. الوطن اليوم بتضاريس قادم جديد أراه يلمع ويكاد سناه فينا يمحو عناء السنين، بل يجب أن يكون كذلك حتى لا ينتصر الظلام من جديد، وحتى لا تظل (الوجوه الدخانية في مرايا الليل) كما قالها الرائي البردوني هي الحاضرة بفعل تجاذبات بائسة بين آخر وآخر..
على الوطن أن يستكين في الصلاة لرب العباد، ليبقى للذات المطمئنة اتساق تطلعها بخالقها الذي منحها الوجود ووهبها الحرية لتنعم بها دونما تقاطع من أحد على أحد، فمثل هذا لم يعد ممكناً، في زمن يتداخل فيه الكوني بالوطني، ليستشرف العالم العالم بلا فواصل أو حدود، علينا جميعاً أن نفقه معنى التواصل في عالم بات أشبه بقرية صغيرة وصغيرة جداً، فيها الكل يراقب الكل من أجل المضي إلى عوالم تستحق أن تكون ونستحق أن نأتيها إما بإبداعنا وإرادتنا وحريتنا ورغبتنا في شراكة عولمية.. أو من خلال سنابك العلم والتقنية والآخر المتفوق الذي يتصل بنا رغماً عنا ولا نستطيع مجاراته، الآخر الذي يمثل أسباب الهيمنة بما أوتي من أسباب حضارية ومعرفية ومعلوماتية لا مجال للمراهنة على هزيمتها بقدر الرهان على التعايش معها والحوار معها بصدق وشفافية وتناغم يصلنا إلى بعضنا البعض بما لدى الآخر، حتى لا نظل قبض ريح أو كمن يحرث في بحر، كل يتربص بالآخر في الداخل الوطني، وثمة ما هو أكبر دولاب العولمة الذي يجب أن نأتيه عبر الحرية الإبداعية والتفتح والإيمان بقيم الحق والخير والجمال..
هنا فقط يتحقق القادم ليس من باب الإرتهان والمزايدة، ولكن بتوق معرفي واحترام متبادل وقبول بالوافد في إطار منظومة معرفية وأخلاقية نتمنى أن نفطن إليها عبر ذواتنا وليس بإملاء أحد على أحد.
محمد اللوزي
القادم الجميل 2230