لا أعتقد أن من يكتب اليوم من صف الثورة ليناقش موضوعاً أو يوضح فكرة أو يرد على شبهة أو غير ذلك سيأتي بجديد بعد عام كامل من 03إلى 03 ومن 11إلى 11فبراير وكل شيء قد قيل ويقال مكروراً إجمالاً ومفصلاً..
ليس معنى ذلك إفلاساً فهناك من الفجاجة ما يفجر قرائح شعرية وإن كان الشعر من سحر البيان لكنك أمام غباء وقلوب كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار.
) لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) والقرآن بيان للناس كما جاء في وصفه "هذا بيان للناس ولينذروا به".
وأنت كمعنيٌ ومسئول عن الواقع الذي تعيش فيه وعليك من الواجب ما تحمل من الفهم الذي يولّد الإحساس وهو أمر طبيعي يجب أن يكون عند كل أحد وعليك أن تتخذ الوسائل والأساليب الكفيلة ببيان ما لديك من الوعي الناهض بمجتمعك والمحيط الذي أنت فيه بروية وبيان منطلقا من صدق النية وإخلاص الوجهة لله ثم لوطنك ومجتمعك فإذا نفدت كلماتك في الموضوع الذي أنت فيه وبَعُدت عن التقمص والشخصنة في الموقف حتى لا تكون منفرا الآخر المدعو إلى وطن يجمعنا فقد أديت ما عليك...
قد تجد نفسك ثرثاراً مع أشخاص كثيرين ولا تملّ من الحديث والكلام معهم لما تجد من مشترك ثقافي وفكري وتجد المتعة في قضاء الوقت كله معهم لا تمل مجانبتهم إلى غيرهم وتأنس بالبقاء معهم وتشعر بالغربة بالبعد عنهم وتشتاق للقياهم أو مهاتفتهم إن أمكن في حين يشكو منك قريب أو صديق أنك لا تشاركه الحديث وقد يصمك بصاحب الحالة النفسية والمكتئب وهذا بالفعل ما شكا لي به أحد الإخوة أنه يعود إلى أهل القرية الذين طال بهم البقاء في القرية ولم يحصل لمعلوماتهم واهتماماتهم تجديد أو تحديث وتطوير وسمو فيعود صاحبي وحين يسمع منهم يجد وضاعة في التفكير وسفالة في المنطق، فلا يملك إلّا أن يصمت فيتخافتوا بينهم أن الرجل مسحور ولم يعد كما كان عليه من البهجة والأنس والحب الذي كانوا يعيشونه في أيام مضت، فإن صارحه أحد بما يقولون عليه فلا يملك إلا أن يضحك ويقول إني والله بكامل صحتي والعافية لكني لا أدري ماذا أقول أمام الانحطاط الثقافي والفكري ودونية الاهتمام وعيش الحجر.
فالأيدلوجية الحجرية قبل الثقافة والتفكير الموضوعي المنطقي المتعطش للطاقة من المعلومة، الباحث عن الكمال البشري والحقيقة الغائبة وما تطمئن لها النفس وتأنس بها الروح ويرضى بها العقل، فكل الانحصارات التي يقع فيها الكثير من أبناء المجتمع الواحد نتيجة أزمة في البنية العقلية للشخص وعدم الإصغاء واللا ميزان لديه تقيس ما يتلقى من أفكار ويرى من مواقف تستدعي أحكام مجردة عن هوى النفس وأمراضها من الحقد والحسد ونوازع الحيوان إلى كمالات الإنسان.
الظاهرة الأنعامية وقول الله عز وجل: "إن هم إلّا كالأنعام" ليست خاصة بالكفار، لكنها تعني البلادة وعدم الإحساس الاجتماعي المتولد من كيان الجسد الواحد "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سار الجسد بالحمى والسهر" تلك البلادة الاجتماعية وعدم الإحساس والوجهة إلى هدف الأنا كما النَّعَمَة بل أضل، لأن النَّعَمَة تؤدي دورها في الحياة في خدمة الإنسان فما دور من لا يهتم بالشأن العام والحفاظ على القيم الاجتماعية التي تكفل التماسك بين أبناء المجتمع الواحد؟ لا يدرك من يعيش حياة النَّعَمَة أن تلك القِلة التي تعني بالشأن العام والمجال السياسي هي من تصنع مراتع تلك الأنعام بخصوبتها ورغدها أو جدبها ونكدها بل هو ينتظر مثل ذلك وكثيرا ما تسمع ويسمع الكثير (هيّا ما عملتوا؟) وكأن الأمر لا يعنيه فقط منتظر يأكل ويخفف عن ذاته الجو المتوتر.
ولولا الفئة المدافعة(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ ... وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ...) لغرقت السفينة وهلك الجميع وهذا معنى الحديث(إن تركوهم وما فعلوا هلكوا وهلكوا جميعاً) وبقدر العناء كان التقصير، التقصير الذي كان يجب أن تتحمله تلك النُعُم هو مزيد من العبء والجهد تتحمله الفئة المجاهدة (والرواحل) المدافعة أمام أصحاب الأهواء والباطل.
الثورات اليوم وما يسمى بالربيع العربي رسالة ونبوءة ووحي إلهي من نوع جديد بشكل مؤسسي فكل ثائر جزء من نبي ومجموع الجزئيات الثورية تكتمل لتشكل المؤسسة النبوية التي أتت، بشكلها الرسالات السماوية، إنها التجديد الذي تحدث عنه نبي الأمة: إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد للأمة أمر دينها، فالدين ليس طقوس كَنَسِيّة تؤدى في المساجد ودور العبادة إنه قيم خلاقة وحضارية في حياة الأمة تكفل لكل فرد الحياة الكريمة. الشعوب المتحركة على قلب رجل واحد تنشد العدل والحق والوحدانية لله لا الشرك للفرد المستبد من لم يؤمن بهذه النبوة ووحي السماء الذي نزل هذه الشعوب فهو المشرك بالفرد المتعدى على حقوق الآخرين بنصرته للباطل تعاكس فطرتها وحياة الضمير (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعدواناً) لديها عقول هي أوعية مليئة بما وجدنا عليه آباءنا والله أمرنا بها، عقول لا تريد أن تعمل أو تستوعب ما يطرحه الآخر، تنطلق من الموروث الاجتماعي لا الواقع وأبجديات المنطق وأسس التفكير وحرمة العقل، هذا من جهة ومن جهة أخرى مصالح شخصية ترى في الثورة سلباً لتلك المصالح المنقولة أو المكانة الجهوية ستفقده إياها الثورة، ولأنه يدرك أن في ظل وضع كهذا هو يحصل على ما لا يستحق فبكل تأكيد عليه أن يحافظ على هذه المصالح التي يجنيها ولا تتوافق مع ملكاته ومؤهلاته وهو في الحقيقة مغتصب لحق الغير اتكالي يأكل من عرق غيره والحرص على ما يستحق، في وضع منتفية فيه أسس العدالة والحرية والفرص المتساوية وسلطة القانون، وبفعل قوة قاهرة مكنته ما ليس له وسلبت صاحب الحق بمؤهلاته الفطرية والمكتسبة.
ليس لديه القدرة أن يعيش بحرِّ جهده وماله في خط عمره، وهل الثورة تريد أن تسلب أحداً حقاً أو تمكّن آخر من ظلم؟ إنها تنتصر حتى لمن يقف في وجهها فليس لديها أي خصومة مع أحد، فقط تريد أن تسترجع الوطن وتضمن حرية أبنائه تحت سقف واحد كل ينطلق في الحياة بفوارق قانون السماء وما مكَّن الله كل فرد من عطاياه، كل طاقة حين تكسب بجهدها وكامل طاقتها التشغيلية، هي تكسب للجميع، (فالناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم)، فكل من يعطي هو في ذات الوقت يأخذ، إنه قانون التوازن.
لتكن الفطرة، الفطرة التي تعني الجمال كما خلق الله أحسن الخالقين وفي أحسن تقويم هي المحكمة التي يعود إليها كل فرد وكل جماعة بنفس هادئة تسمح لصوت العقل أن يمر بعد أن يعمل...
كنا في الأيام الأولى للثورة كلٌ يتباهى بالجموع المحتشدة، الثورة في الستين والبلاطجة وربهم صالح في السبعين وكل يقول هو الأكثر وكنت أفكر هل ممكن نعد تلك الجموع فرداً فرداً واسماً اسماً لنعرف من هو الأكثر حقاً وليقتنع الفريق الأقل بالعودة ويستلم الراية الفريق الأكبر والأكثر؟ وها هو اليوم الـ21من فبرائر يحقق تلك المنية، إنها العدُّ من ضد صالح أو مع صالح، فالتصويت لعبد ربه منصور هادي يعني الرفض لصالح بكل بساطة...
طاهر حمود
رسالة الثورة 2020