مملكة أسبانيا وجمهورية جنوب إفريقيا لا أدري لماذا عليَّ تذكرهما الآن؟ فجمهورية أسبانيا أختطفها الجنرال فرانسيسكو فرانكو مذ تمرده على الحكومة يوم 18يوليو 1936م بعيد فوز الجبهة الشعبية اليسارية في انتخابات وحتى وفاته يوم 20نوفمبر 75م،فبرغم أن تمرده كلف بلده حرباً ضروساً استمرت ثلاث سنوات قتل فيها قرابة مليون إنسان ؛ إلا أنه وقبل وفاته مهد لعودة الملكية ثانية إلى اسبانيا.
إذ كان فرانكو والبرلمان قد عينا الأمير خوان كارلوس ليصبح ملكاً عام 69م فور انتهاء حكومة فرانكو المؤقتة منذ هزيمة الجمهوريين باستيلائه على مدريد 28مارس 39م، على هذا الأساس تولى الملك الحكم عقب وفاة الجنرال مباشرة، فاستهل عهده الجديد بتصفية نظام فرانكو ومؤسساته ومن ثم أجرى أول انتخابات حرة ونزيهة في يونيو 77م ومن وقتها واسبانيا دولة ديمقراطية مستقرة.
وعلى ذات المنوال الانتقالي سارت جنوب إفريقيا منذ استقالة رئيسها بونا في أغسطس 89م تحت ضغط وتهديد داخلي وخارجي ليخلفه الرئيس دى كليرك الذي رفعت حكومته عام 90م الحظر المفروض على حزب المؤتمر الوطني وفي فبراير من العام ذاته أطلقت سراح الزعيم الوطني نيلسون مانديلا بعد 27سنة سجناً.
أعلن الرئيس كليرك خططاًَ لإنهاء قوانين التمييز العنصري (الأبرتهيد) وخلال العام 91م ألغى البرلمان هذه القوانين وفي 93م وافقت أطراف التفاوض ممثلة بحزب المؤتمر الممثل لغالبية السود والحزب الوطني ذو الأقلية البيضاء على دستور يقضي بحق الجميع في التصويت في الانتخابات كما تم إلغاء أوطان السود (البانتوستانات) أو أمم السود.
وهي السياسة العنصرية التي قنن لها بدءاً من 48م ومن ثم في 59م أصدرت الحكومة قوانين قضت بتوطين السود على مساحة 13%من مساحة جنوب أفريقيا وفي 71م بدأ التطبيق الفعلي لهذه الأوطان المستقلة اسمياً دون اعتراف من الأمم المتحدة نظراً لإنشائها على أساس الفصل بين الأجناس.
فهذه الدويلات الأربع في العهد الجديد تم إدماجها ضمن 9مقاطعات الدولة الحديثة، وفي ابريل 94م فاز حزب المؤتمر الوطني بأكثر من 62% من الأصوات يليه الحزب الوطني بنحو 20% وحزب الكاثارا الحرية ب10,5%، وكانت هذه الانتخابات هي الأولى التي تلغي التفرقة بين السود والبيض، كما أنها أوصلت الزعيم نيلسون مانديلا إلى سدة الرئاسة.
وفي العام 95م شكل مانديلا لجنة الحقيقة برئاسة القس توتو لتوثيق جرائم حقوق الإنسان في زمن سياسة الأبرتهيد وفي الانتخابات التالية يونيو 99م فاز ثابو مييكي نائب الرئيس مانديلا وزعيم حزب المؤتمر برئاسة البلاد ومن حينها وجنوب أفريقيا تمضي بسلام ووئام وازدهار.
لماذا عليَّ تذكر اسبانيا وجنوب أفريقيا؟ ربما أن للأمر علاقة بأولئك الصغار الذين سيبقون صغاراً ولن يجدي معهم نفعاً كل محاولة يراد منها رفعهم والارتقاء بهم مصاف الكبار، إنهم خير تجسيد لمقولة الشاعر الروسي مكسيم جوركي (الكائن الذي خُلق ليزحف لا يمكن أن يطير) هكذا هم صنف من البشر إذ تجدهم لا يتورعون عن نفث سُمِّهم اللعين وبطريقة يربأ عن فعلها الشيطان.
مؤخراً قرأت مثل هذا الكلام العنصري العفن في صحيفة للأسف تدعي زوراً وبهتاناً بكونها لسان حال الجنوب وأهله، فبعد أن كانت البذاءة والقذارة حكراً على المواقع الالكترونية- وبالذات تلك الحاملة لراية تطهير الجنوب من دحابشة الشمال – صارت اليوم لدينا صحف مطبوعة تحرض على القتل والكراهية وبكل فضاضة ووقاحة.
الجنوب ودولته وناسه لم يفتك بهم سوى مثل هذه الأفكار الشوفينية التي كان من تجلياتها المريرة كارثة يناير القاصمة لروح التعايش والمحبة والتسامح، العجيب أن الصحيفة ما فتأت تحتفي بذكرى النكبة الفاجعة كيوم مجيد تصالح فيه وتسامح أبناء الجنوب،ومع كل ذلك لا تجد حرجاً في تفصيل مدينة عدن على أساس مناطقي جهوي يعيد للأذهان حقبة مقيتة يفترض نسيانها وطويها لا بتكرارها هذه المرة مع أناس آخرين.
البانتوستانات تعني أوطان السود، ربما ظن هؤلاء أن عدن قابلة هكذا فرز جهوي مناطقي لا يستقيم مطلقاً مع كونها مدينة كوزوموبوليتيكي ولدت من التنوع والاختلاف ذاته، شيء مخزي ومخيف حين تسمع احدهم قائلا : هؤلاء من تعز وذمار وليسوا من عدن !
يا لهذه الوقاحة والسخافة ! تصوروا عدن التي سكنها التعزي والهندي والصومالي والباكستاني والبيضاني والبدوي والحضرمي والضالعي واليافعي والقعطبي والعقربي بل وتعايش فيها زمناً المسلم والنصراني واليهودي والهندوسي وووووالخ من الأديان والطوائف والمذاهب وقد أضحت مدينة تقطنها قبائل التتار الهمجية !
ختاما نقول لأصحاب الخطاب المنفلت المشحون بالكراهية والديماغوجية ؛كفاية عبث وفوضى وتشويه لوجه وروح هذه المدينة وليذهب جنوبكم للجحيم إذا ما كان مستهله نزع روح التحضر والتمدن والمواطنة المتساوية، شخصياً اعتبر هذه المفاهيم والقيم المدنية متجسدة بهذا المزيج الجميل من التعايش البشري، محاولة فصل المدينة عن تنوعها هذا يعني نزع روحها وهلاكها.
فكفاية عبثاً وخراباً يا هؤلاء؛ فعدن أكبر وأوسع مما تظنون وتتخيلون، وأهلها يبرأون من كل فعل قبيح وهمجي مدمر لنسيجها المجتمعي الواحد،ما نراه اليوم من عبث وفوضى جماعات الأبرتهيد الجدد لن يفضي بنا لسوى التمزق والسقوط الأخلاقي، فهذه الأفعال المجنونة والطائشة لن تبني وطناً جميلاً ورائعاً بل تؤسس لمقبرة كبيرة ولأوطان مبعثرة محتقرة أشبه بأوطان السود (البانتوستانات) التي لا مكان لها في عالم يباهي اليوم بمقدار تنوعه وتعدده العرقي واللغوي والديني.
محمد علي محسن
كفاية صمت كفاية عبث !! 2480