هل رأيتم اليمن توحد كما توحد مثل هذا اليوم، فاصطف صفاً واحداً وراء هتافات هذه الثورة، التي سرت كأنها الروح في الجسد الهامد، تدب في كل عضو، وتسير من بيت لبيت ومن جسد لجسد، والتحمت حولها الأيادي يداً بيد، وهل رأيتم الوجود اليمني، والشعب العظيم، وقد اكتملت صفوفه في اصطفاف وطني كبير، فها هي اليمن كل اليمن تشارك من أجل اليمن، هل رأيتم جمال هذه الثورة وهي تضم كل أبناء اليمن إلى حضنها كأنها بلقيس في ماضي اليمن التليد، وكل فرد فيها يشد يده في يد أخيه، يهتفون: "اعتصام اعتصام حتى يسقط النظام"، كأنهم البنيان المرصوص، المتلاحم في مظهر الأصابع المتشابكة.
إنه الاصطفاف الوطني الكبير الذي لم تشهد اليمن مثله في تاريخها المعاصر، اصطفاف شمل اليمن كل اليمن وراء هتافات شباب الثورة وشاباتها، فالتأمت كل فئات الشعب ومكوناته، وكان لأبطال الجيش موقعهم، وللقبيلة اليمنية الأصيلة دورها، وللعلماء الأعلام كلمتهم، وللأطباء جهدهم الذي حفظ الله بهم الحياة، وللأكاديميين وقادة الرأي جهودهم واجتهادهم، وللمهندسين تواجدهم، وللمحامين أثرهم وتأثيرهم، وللموظفين وجودهم، ولكل الفئات تواجدها ودورها الذي لا يغمط، وشرف مشاركتها الذي لا ينسى، وفعلها الذي لا يمكن تجاوزه.
وتحركت آلة الثورة اليمنية في الخارج، تشعل الأنوار، وتوسع مساحة الاصطفاف وراء الثورة، وبدأت الجاليات اليمنية تشق العباب خلف البحر، وتحت أديم السماء، تؤدي واجبها، وتدع ما في يدها من أعمال لتقوم بدورها المشهود خلف الحدود، وتحركت الجاليات اليمنية تنقل الثورة إلى بلدان الدنيا، وتعرف العالم ببلدنا اليمن الحبيب، وتعلن للإنسانية ميلاد أعظم ثورة، ثورة السلام، ثورة الكلمة، ثورة اليمن البن، ثورة اليمن الجديد.
إن هذا الاصطفاف الوطني الكبير كان له ثمنه الكبير أرواحاً وممتلكات، ولكنه كان هو الانتصار الأكبر للثورة، والعلامة الحقيقية لنجاحها، والمظهر الأصيل لاكتمالها ونضج خطواتها، فقد لبى كبار القادة العسكريين وغامروا بحياتهم وتعرضوا لمحاولات الاغتيال لأجل اليمن، ولأجل اليمن أعلن الوزراء والسفراء ووكلاء الوزارات ورجالات الصحافة والإعلام انضمامهم للثورة وضحوا بمناصب لا يحلم بها أزلام السلطة من حملة المباخر، كل ذلك لأجل اليمن، ودفع المشائخ الكبار حياتهم ثمناً لانضمامهم للثورة، وتعرضوا لقصف بيوتهم بالأسلحة الثقيلة، وقدموا قوافل الشهداء كل ذلك لأجل اليمن، إننا نقدر عالياً كل قطرة دم ونشعر أننا مدينون للشهداء بحياتنا، لذلك لن نميز بين شهدائنا، فكل شهداء الثورة عظماء، وكلهم قدموا لأجل اليمن، ولن ننساهم أو نجحد دورهم، بل هو الوفاء للدم الغالي.
لقد اصطفت جماهير الشعب اليمني حول الثورة وخلف الشباب في اصطفاف لم يحدث حتى يوم الوحدة العظيم، لماذا؟ لأن الثورة الشبابية الشعبية هي الشخصية اليمنية العظيمة والأصالة اليمنية، وهي ثورة الحرية، وثورة الوحدة وتحقيق اللحمة اليمنية، والانتصار للتاريخ اليمني، واسترداد هويتنا اليمنية، واسترداد الثورة السبتمبرية والأكتوبرية وإنقاذ الدولة اليمنية من الاختطاف، واغتصاب السلطة، وصورية المؤسسات الدولية، والتحرر من الحكم العائلي، وشخصنة الدولة، واستعاد النشيد الوطني هيبته حين تقف الساحات وهي تسمعه، والأغاني الوطنية تتردد في جنبات الساحات ووسط المسيرات والمظاهرات، فهذه الثورة المباركة هي ثورة حب الوطن والتضحية بالمال والنفس والوقت لأجل اليمن الحبيب، ومن خلالها تجسد الشعور بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
لقد مثلت ثورة الشباب، تلك الأم التي درسنا قصتها صغاراً حين ادعت امرأتان أن كل منهما أم الطفل فقال القاضي: إنه سيقسمه بالسكين بينهما نصفين، فقبلت الأم الزائفة أن تسلط آلة القتل في الجسد الطاهر، ورفضت الأم الحقيقية وصرخت: بل هو ابنها لا تقسموه بالسكين، فعرف القاضي أنها الأم الحقيقية، فالأم الحقيقية لا تقبل أن تعمل السكين في جسده فتتمزق أشلاؤه، لكن الأم الزائفة السارقة هي التي تتوعد بالحرب وتنفذها، وتدمر الأخضر واليابس، وتفسد في الأرض، وتهلك الحرث والنسل،والله لا يحب الفساد.
إن الشباب يتحدثون عن المستقبل في حين يعيش خصومهم في الماضي، ويقدم الشباب صورة راقية لشعب عظيم، صورة تليق باليمن واليمنيين بخلاف ما يحاول خصومهم أن يصموا الشعب اليمني به من التخلف والجهل والاحتراب، ويرسم الثوار لوحة اليمن الجديد متشبعة حد الارتواء والبهاء بمعاني المدنية والتحضر، في حين يشوه خصومهم وجه اليمن واسمها، والذي يشاهد الإعلام الرسمي أو يقرأ مطبوعاته يدرك معنى التلوث، فهم تجسيده الحقيقي، فالتلوث البصري والسمعي والذوقي والفكري لو تجسد لتمثل في صورة الإعلام اليمني الرسمي.
إن الشباب الثائر ترنم بأعظم سيمفونية يمنية وطنية استقطبت إعجاب العالم باليمن واليمنيين، وأشاد بها كل المحللين السياسيين والإعلاميين في العالم؛ حيث قدمت اليمن عروساً في أزهى صورة حضارية، تمثل بصدق حضارة اليمن العظيم، في حين يقدم خصومهم اليمن لوسائل الإعلام الدوليةـ إنه حضاري في زمن قديم، ويؤكدون أن ذلك بعكس اليمن اليوم فهو بحسب رأيهم قبلي ومقتتل، وهي الصورة التي علقت بأذهان العالم عن اليمن ـ البلدة الطيبة ـ بأنها مأوى للإرهاب، والقاعدة، والانفصال، فقام الشباب الحر بغسل هذه الصورة الزائفة فظهر بمجهودهم بريق الصورة اليمنية الذي يخطف بهاؤه الأبصار إعجاباً واحتراماً وتقديراً.
إن العالم يعيد اكتشاف اليمن، اليمن الأصيل والحضاري، والمدني، فما قدمه الشباب اليوم فعلاً تاريخياً متميزاً، له أثره وتأثيره فثورة الشباب مدرسة متكاملة بحسب تعبير المفكر العربي الكبير عزمي بشارة.
إن الثورة أظهرت طاقات الشعب اليمني العظيم وقدراته، فالأطفال ينشدون، والرسامون يرسمون، والفنانون يغنون، والزوامل أهازيج وأفراح، والأعراس تتوالى حيث يعقد القران على منصات الاحتفال، ويزف العرسان على الهواء مباشرة، وترتفع زغاريد النساء للعرسان، إنها اليمن يمن الخير، اليمن السعيد، وسواعد شبابه تعرف كيف تبنيه من جديد، وكيف تعيد تشييد الصرح اليماني المجيد.
لقد أرسل إلي أحد الأخوة المرابطين في ساحة التغيير برسالة نصية جميلة يقول فيها: سألني أحدهم لماذا تحضر ابنك معك إلى ساحة التغيير؟ فرددت عليه ليعلم أن له وطن.
إن الثورة الشعبية أعادت لليمن اعتبارها، فأبرزت دور المرأة اليمنية التي غُيبت، والقبيلة التي ضيعت، والجيش الذي أهمله النظام وزعم أن مهامه الاستعراض وضرب المواطنين، كما أبرزت دور العلماء الذين جعلهم لحين الحاجة، يقول لهم: ما تخرجون به "سمعاً وطاعة" فلما قيلت له كلمة الحق، سلط عليهم بلاطجة الإعلام، يهتكون الأعراض ويلغون فيها.
إن عثرة اليمن ليست في الظلام، إن عثرتنا الحقيقية هي في إيقاد الشموع في صناعة النور، فإن الظلام ضعيف مهما تركنا مقاعد المتفرجين وتحركنا نحو الفعل، فشمعة واحدة تبدد الظلام في محيطها وتسلب الظلام كل مقومات قدرته.
من هنا نعلم أن مشكلتنا هي في ترك الظلام يغطي حياتنا ويعيث فسادا بمقدراتنا، حيث يصادر كل ما نملك ويجعلنا نرى الحياة ظلاما، والمستقبل ظلاما، ولكن إشعال الأنوار يبدد كل ترهات الظلام.
إن الاصطفاف الوطني الكبير خلف الثورة جعلها تكبر يوما فيوم، وفيها يبرز الثوار والثائرات قدراتهم الثرية على النمو وعلى الحفاظ على السلمية في الوقت نفسه، إنهم يشعلون الأنوار من بيت لبيت، وتدب فيهم الحياة في الجسد اليمني عضوا فعضوا، وتتشابك الأيادي اليمانية التي مزقها النظام يداً بيد، ويتعملق بناء الثورة الشعبية الشبابية السلمية من ساعة لساعة، إنها صورة وضاءة ليمن جديد، يمن يسع كل مواطنيه، وينعم بخيراته كل أهله، ولا توزع ثرواته على مجاميع من المرتزقة، والأفاكين.
د. محمد عبدالله الحاوري
الولاء الوطني والاصطفاف اليمني الكبير خلف الثورة 2210