حينما يتم استكمال تحصين الانتفاضة من النزعات والأمراض التي ذكرنا سابقاً، فإن تحصين المنظومة السياسية للدولة سوف يكون في متناول الجميع وبسلاسة رغم أنه سوف يستغرق وقتاً ويحتاج إلى جهود عملية ونظرية مكثفة، ولكي نتجاوز التحديات والمعوقات لا بد من استنهاض دور النخبة السياسية والثقافية كأهم إشكالية في التاريخ وعلى هذه النخبة استظهار الأربع النقاط الأساسية التالية: الأولى ـ الاعتراف بالآخرين قولاً وفعلاً واحترام تعددهم الثقافي وخياراتهم والقبول للعيش والتعايش معهم وبينهم بدون تمييز في المكان والزمن وصيانة كرامتهم وتحقيق الشراكة السياسية بدون قيود، الثانية ـ الاعتراف بأن الحقيقة ليست من الأملاك الخاصة وليست سلعة قابلة للاحتكار وأن لكل منا نصيب في الاجتهاد للوصول إلى الحقيقة وتعريفها وتمييزها الثالثة: التحرر من الذهنية الجاهزة المسيطرة على النخبة السياسية والثقافية التي ترسل فقط آرائها وأفكارها ولا تستقبل ولا تحلل ولا تقبل الجدل مع الآخرين وتحاول فرض خياراتها متقمصة شخصية "الفانوف" الذي يعرف كل شيء ويفتي في كل العلوم العلمية والأدبية..
الرابعة ـ عدم التعاطي مع نظرية إحراق المراحل ونظرية المؤامرة، فالأولى خيالية تفرض على الناس الانتقال من البدائية إلى أعلى مراحل الرأسمالية، بينما الثانية تفكك الاستراتيجيات وتطيح بجسور الثقة بين الناس.
وهذا ما اتفقنا على هذه الأساسيات، فإن نقلة هامة سوف تحدث داخل البنية الذهنية للنخب وبالتالي سوف نصل إلى إدراك كيف نحصن المنظومة السياسية للدولة والتي أود المساهمة في طرحها لخطوط عريضة وهي:
أولاً: إن إقامة الدولة القانونية "المدنية" في اليمن كمطلب عصري سوف يتحقق إذا اتفقت النخب الفاعلة على هدم أركان الدولة الطائفية المختلفة ومنظومتها السياسية هدماً كاملاً وليس ترميم هذه الدولة شكلاً مع الاحتفاظ بجورها وبالتالي الاتفاق ابتداءً على نوع النظام السياسي الانتقالي الذي عليه تلبية كافة الاستحقاقات والفواتير وفي الصدارة فاتورة حرب 1994م والتي خلقت وضعاً رجعياً في المنطقة كلها وأرغمت المجتمعات التغذي بنزعات مرضية وبثقافة الكراهية. وإن إعادة الاعتبار لاتحاد دولتي عدن وصنعاء السياسي على أساس العدالة هو جوهر البرنامج السياسي للنظام السياسي الانتقالي، إضافة إلى تضميد جراح المواجهات العسكرية في صعدة وتحقيق أهداف الانتفاضة في التغيير والمشاركة السياسية.
وإعادة الاعتبار لاتحاد 22 مايو 1990م ليس بالعودة إلى المربع الأول الذي كان هشاً ولئيماً وغادراً بل إلى صيغة جديدة يتكفل بإنجازها النظام السياسي الانتقالي عبر الطريق المعبد بالسلام والتنمية والديمقراطية وتكون هذه الصيغة بوضع برنامج زمني عملي لإقامة دولتين فدراليتين أحدهما جنوبية وثانيهما شمالية، بحيث تقوم كل دولة على أساس الفدرالية الداخلية المرتكزة على الدولة المركبة وعلى أساس الوفاق النخبوي السياسي والثقافي على أن يرعى النظام السياسي الانتقالي "الوفاقي" المؤتمرات العامة التي سيكون مهمتها الإعلان عن قيام الدولة ونظامها السياسي وبعد إنجاز هذه المهمة يتم جمع قيادة الدولتين لتوقيع وثيقة الاتحاد الفدرالي بينهما وفي زمن الإعداد لهذا العمل لا بد من إنشاء مفوضية لإدارة وتوزيع إيرادات الثروة المعدنية بصورة عادلة.
ثانياً: مراجعة ونقد أداء المنظومة السياسية للدولة منذ 1962م و1967م و1990م الكلية والجزئية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإدارياً، خاصة فيما يتعلق بالنزاهة السياسية والمالية والإدارية والخروج بوثيقة تاريخية من العبر والدروس تجيب على أهم سؤال سوف تطرحه الأجيال وهو: لماذا أخفق اليمنيون في بناء الدولة القانونية وقد مر على قيام جمهوريتهم "50 سنة"، بينما دولة كماليزيا أنجزت ما هو بعد الدولة القانونية؟
ثالثا: التفكير جدياً بالإلغاء التدريجي للقوات المسلحة وأجهزة الاستخبارات "الأمن القومي والأمن السياسي" لأن التجربة العلمية أثبتت أن البلاد لم تدخل في مواجهات عسكرية حدودية بعد التواجد الكثيف للقوات الدولية في البحر والبر اليمنيين وبعدم استخدام قوات الجيش وأجهزة المخابرات لقتل الناس في الاحتجاجات السلمية ولنهب الأراضي والعقارات وأنه يمكن إجراء عملية مناقلة بتحويل القوة البشرية، بعد تأهيلها، إلى الأمن العام وتعزيز دور الشرطة المدنية وإنشاء جهاز استخباراتي نوعي يخضع للمراجعة والمحاسبة.
رابعاً: إحلال الثقافة العلمية محل الثقافة الغيبية وتحرير العقل الأكاديمي "الجامعات" من عبودية وزارات التعليم العالي وتخليص البلد من الحزام الأمني المستفز والمقرف وإطلاق حرية التنقل وإلغاء قوائم السفر السوداء.
عبدالرحيم محسن
تحصين الانتفاضة والمنظومة السياسية للدولة(3 3) 1947