لقد برر بعض الفقهاء ما يقوم به الحكام الظلمة من جرائم وانتهاكات للحقوق والحريات واستباحت الدماء والأعراض بهدف وأد الثورات السلمية للربيع العربي التي حققت أولى ثمراتها برحيل أنظمة الجور والاستبداد.
لقد برر هذا البغي والطغيان ضد شباب أعزل : بخروج الثورات السلمية عن طاعة الحكام وإنها شقت الجماعة،فالطاعة برأيهم واجبة للحاكم الظالم وان جلد ظهرك ا و اخذ مالك او سفك دمك، فهل هذا يستقيم مع فهم نصوص الشرع وينسجم مع منطق العقل ؟
وللإجابة على هذا السؤال ينبغي الوقوف مع كتاب الله بشمولية، فالقرآن يفسر بعضه بعضاً ومع سنة رسول الله الصحيحة الغير معارضة للقرآن. ان المتتبع لآيات القرآن الكريم يجد ان ثلاث آيات فقط اشارت الى قضية الحكم والسياسة هي :1-وأمرهم شورى بينهم)
2-((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل)).
3-"وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".
هذه الآيات متصلة ومترابطة مع بعضها البعض، فالآية الأولى تشير وبوضوح أن الشورى ملزمة في قضايا الحكم والسياسة و هي الإطار السياسي الذي نقل أمة العرب من الفوضى والعشوائية واللادولة قبل الإسلام إلى حال الدولة والنظام والتداول السلمي للحكم (الخلافة )) حيث تم ممارسة الشورى ملزمة بصورة عملية في العصر الراشد الذي كان ثمرة للعصر النبوي حيث تم اختيار الخليفة من الأمة مباشرة عن طريق البيعة وكان الحاكم نموذجاً رفيعاً للحاكم الصادق المتواضع السليم من علل التطلع والكبر والإعجاب يرى الصغير ابناً والكبير أباً والباقين إخوة لا يتميز عنهم بلباس ولا مسكن ولا ثروة ولا مكانة. هذه التجربة الرائدة في الحكم الراشدي قبل ألف وأربعمائة عام تقريباً حققت ما حققه الغرب اليوم في الحكم برغم الفارق الزمني والتكنولوجي بين التجربتين.
وقد أكدت الآية الثانية بما لا يدع مجالاً للشك على ضرورة أداء الأمانات إلى أهلها وهي واجبات على قيادة الدولة و سلطاتها المختلفة (أولي الأمر) هذه الواجبات تؤدى كحقوق للأمة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والتعليمة والصحية... الخ.
وأكدت الآية على الجماعية للحكم بما يحقق العدل في مؤسسة الدولة وكذلك تحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمع من خلال التوزيع العادل للثروة والخدمات اللازمة للأمة و بهذا يتحقق سلطان الأمة لا سلطان الفرد والأسرة ويتأكد حق الأمة في السلطة عند إجراء انتخابات حرة ونزيهة رئاسية أو برلمانية أو محلية تحدث تغير وانتقالاً سلمياً للقيادات العليا للحكم.
اما القول بوجوب طاعة الحاكم الظالم وان جلد ظهرك او سفك دمك، فهي دعوة بقصد او دون قصد لتكبيل الأمة بمزيد من الأغلال والقيود التي تحد من حريتها وقدراتها وإبداعاتها. ونزع حقها في السلطة والسلطان، فهي صاحبة السلطة ومصدرها. وهو قول لا يستند إلى أدلة قطعية او منهجية شاملة في الاستدلال وإنما تستند على الفقه الجزئي التفصيلي الانتقائي الذي يتوافق مع أهواء الحكام الظلمة على حساب حقوق الأمة المعتبرة وهذا نوع من الكهانة الذي مارسه رجال الدين المسيح في أوروبا في العصور الوسطى المظلمة.
وهذا القول لا يتفق مع أقوال أئمة الفقه ( ابوحنيفة –ومالك –والشافعي – احمد )الذين أجازوا الخروج على الحاكم الظالم، مشترطين عدم ارتكاب مفاسد كبرى. وثورات الربيع العربي السلمية لم تتعمد أن تكسر شجراً أو تؤذي حيواناً أو تقتل إنساناً.
يقول عليه الصلاة والسلام (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) ويقول عليه الصلاة والسلام أيضاً (سيد الشهداء حمزة ورجل قام الى امام جائر فامره فنهاه فقتله)
اذاً فالطاعة في الآية الكريمة (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) تشير إلى واجبات تنفذها الأمة بعد ان ينفذ الحكام حقوق الأمة كاملة غير منقوصة والمنصوص عليها في الدستور والقانون.(ان الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها ).
و الإسلام والاستبداد يفترقان ولا يجتمعان، فتعاليم الإسلام تنتهي بالناس الى عبادة الله.ومراسيم الاستبداد تنتهي بالناس لصناعة الأرباب من دون الله. (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا ارباباً من دون الله.) وبعد السقوط المدوي للاستبداد ورحيله نحن بحاجة إلى مراجعة وقفة تأني واعتبار ومراجعة للمناهج التي تخرج على الأمة بهذه الأحكام الجائرة التي لا تستقيم مع النصوص الكلية الشاملة للقرآن والسنة الصحيحة ولا مع المستجدات العصرية السريعة، خاصة في قضايا الحكم والسياسة. ونحن قادمون على مرحلة جديدة (ولاة أمر جدد) ينبغي ان يؤصل فيها للحرية والتعددية واحترام وجهات النظر المتعددة وإعطاء مساحة واسعة للنقاش والحوار.
يحيى محمد الهمداني
سقوط الاستبداد السياسي وكهنوته الديني 1941