إن التفوق الأخلاقي هو من أعظم ملامح الثورة المباركة وأبرز صفاتها، ومظاهره تتجلى في التسامح، والصبر، والحلم، وحب الخير للجميع، وإفشاء السلام، والنظافة، والتكافل والتراحم، والقبول بالرأي، والتعاون على البر والتقوى، والصبر على البلاء، والإعراض عن الجاهلين، والصمود في وجه الفاسدين، والسعي لتحقيق العدل، ونصرة المظلوم، ورفع المعاناة عن اليمنيين، والشجاعة في قول كلمة الحق أمام سلطان جائر، وضبط النفس من التهور أو الاندفاع.
إن هذه المقاصد الأخلاقية العظيمة تجسدت فعلاً حقيقياً على الأرض، ولا ندعي الكمال فيها، ولا مقاربة الكمال، ولا نقول: إن جيل الصحابة رضي الله عنهم قد تجسد في ساحة التغيير، ولكن نحاول التشبه بهم، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام، فمن المؤكد أن السعي في المضمار الأخلاقي كان سعياً حثيثاً، وكان الالتزام به محاولة جادة من الجميع، وهو ما حدا بعالم جليل في حجم سليمان العودة أن يعلن على الملأ: إن الشعب اليمني قد تفوق أخلاقياً على صالح ونظامه.
إن ثورة الشباب السلمية تركت الكذب للنظام والتزمت الصدق، وتركت القتل للسلطة، وثبتت على سلميتها، واتجهت نحو العمل تنسق فئات الثورة وائتلافاتها فيما بينهم، وتطور من أدواتها، وتصعد من أداءاتها، يتحدث شبابها عن بناء اليمن الجديد والنظام يتوعد بالخراب والفوضى والقتل ويمارسه.
وتفوقت الثورة الشبابية الشعبية أخلاقياً حين واجهت محاولات صالح تمزيق اليمن أرضاً وإنساناً باللحمة الوطنية، والتعاضد الوطني، والتكاتف والتكافل والاصطفاف، ومثلت ذلك في كل تكوينات الثورة فكل ائتلاف يضم مكونات المجتمع من مختلف مناطق اليمن، وكانت الائتلافات جميعها مفتوحة ومنفتحة مفتوحة للجميع للانتماء إليها والمشاركة فيها ومنفتحة على بعضها بعضا.
وتفوقت أخلاقياً وهي تواجه تحدي شرذمة اليمن الذي يسعى إليه صالح ونظامه، ومخاطر دسائس صالح ونظامه البائد، بفتح الأشرعة للإبحار إلى الغد الواعد والمستقبل الزاهر، فضمت في جنباتها كل الأصوات الوطنية في الداخل والخارج، واستقبلت بالأحضان كل صاحب رأي وفكرة تخدم اليمن، وتعلي من شأنه.
وتفوقت أخلاقيا وهي تحتفظ للجميع بأقدارهم ومكانتهم، وأعلنت أن الحقوق المكتسبة محفوظة للجميع، وهي تشكل ضمن مجلسها الوطني قيادات بارزة من المؤتمر الشعبي الحاكم، فالخلاف مع صالح وأسرته والقتلة، وليس مع المؤتمر، وأنها ثورة ضد السلطة الظالمة، وليست ضد الدولة، وأن الموظفين في جهاز الدولة هم أداة اليمن لبناء مجدها بيدها، وأنها لا تستثني أحداً إلا من استثنى نفسه، أو لطخ يده بالدم.
إن مضمار الثورة هو أعظم مضمار أخلاقي لما فيه من صناعة التاريخ، وبناء صروح المجد، وتشييد أمجاد الشعوب، وإن عظمة الشعوب تقاس بحكمتها، والصبر حكْم وقليل فاعله، وبقدرتها على تحمل تبعات النصر حتى تستحق التجمل به، فلا تقع في فخ الوساوس، ولا كمين تجار الشعارات، ولا خديعة الانتهازيين وعشاق المنصات من قراصنة الثورات، وتقاس عظمة الشعوب كذلك بتضحياتها فداء للوطن الغالي، فالشهداء زخم الثورة بتعبير أحد الشهداء، ولو أن كل أب منع ابنه من الخروج إلى الساحة ما قامت الثورة بتعبير شهيد آخر، فخرج الأبطال يقول قائلهم لعلي لا ألقاكم بعد يومي هذا بتعبير شهيد ثالث. فانبهر العالم وحق له أن ينبهر، وهو يرى شعب اليمن العظيم يصنع ثورة السلام ثورة الكلمة ثورة الشباب، ثور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثورة الدعاء، ثورة الوفاء، ثورة الإرادة.
عظيم أنت أيها الشعب اليمني الكريم، وأنت بتفوقك الأخلاقي ترسم ملامح عصر جديد، لا مكان للصنم فيه، ولا مجال للصنمية بين أدبياته، وأنت تضع محددات زمن جديد، هو زمن اليمن، حدد القدر مساره من خلال ثورتك، التي أظهرت ما أودعه الله تعالى فيك من حكمة الأقيال، وشموخ التبابعة، ومجد السبئيين، وإيمان الأنصار، وشجاعة الفرسان، ومضاء السيف اليماني، وجاهزية أولي القوة والبأس الشديد، ومشاركة بلقيس بقراراتها الصائبة وحنكتها القيادية، ورقة الأشعرين، ولين أفئدة اليمنيين، فلا غرو أن ركن الكعبة باسم الركن اليماني، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذود الناس عن الحوض حتى يشرب أهل اليمن، وأن نفَس الرحمن من قبل اليمن، وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدنيا وليس معه شيئ إلا أثوابا يمانية سحولية كانت كفنه الشريف، فبقي معه شيء من اليمن في قبره صلى الله عليه وآله وسلم.
إن الثورة تفوقت أخلاقيا وهي تصبر وتصابر وتنجز مهمتها، دون طيش، بل تدرك أن لكل أجل كتاب، وأن سير الثورة يشبه سير الماء في الغدير، يرتفع الماء درجة درجة، ومن ظن أن الدرجة التي هو عليها لن يغمرها ماء الثورة المتدفق فيلزمه شراء نظارة طبية لبصره وبصيرته.
د. محمد عبدالله الحاوري
الثورة والتفوق الأخلاقي 2095