حديث الثورات لقناة الجزيرة كان هذه المرة من قصر قرطاج في تونس، فبعيد نصف قرن ونيف على جمهورية تونس المستقلة عام 1956م بمقدور المواطن العادي الدخول إلى قصر الرئاسة المهيب؛ إذ بات متاحاً لكل التونسيين.. الحلقة تزامنت مع ذكرى الثورة الأولى المحتفى بها كما صادف توقيتها مع آخر ليلة قضاها الرئيس الفار زين العابدين في قصر الرئاسة ومع آخر خطاب بثه التلفزيون الحكومي لابن علي والذي قال فيه جملته الشهيرة (أنا فهمتكم) .
الحقيقة أن الإعلامي المقتدر محمد كريشان كان موفقاً في اختياره للمكان ولضيوفه، فقصر قرطاج بما يمثله من رمزية ودلالة تاريخية وسياسية عاد لأصحابه الحقيقيين الذين هم هنا ضيوفه المعبرين بحق عن أطياف الشعب التونسي، بدت الصورة المنقولة عبر أثير قناة الجزيرة وكأنها من المشاهد السريالية غير الواقعية، فهل تصور أحدكم رؤية قصر قرطاج أو عابدين أو الجمهوري أو العزيزية وهي خالية من الطغاة الحكام؟.
وفي الوقت الذي تم فيه نقل حديث الثورات من القاعة ذاتها التي كان الرئيس بن علي يلقي خطبه ويعقد لقاءاته- كانت عدسة القناة قد انتقلت بنا إلى قلعة التجمع الدستوري الديمقراطي، فمن الطابق الأخير كان الرئيس المخلوع يحكم قبضته الديكتاتورية على تونس وشعبها..
مكتب فخم وفسيح مازال مثلما تركه صاحبه، مبنى التجمع المنحل ضخم وأبهة في شكله ومحتوياته الثمينة، يطوف الزميل أنس بن صالح في طوابقه السبعة عشرة،أجنحة بلا حصر، ثلاثة مسارح لا توجد في الجامعات التونسية، العجيب في الأمر أن تجمع بن علي لم يؤمم فقط السلطة السياسية منذ الاستقلال عن فرنسا بل وصادر حياة المواطن التونسي .
تصوروا الطابق الخامس عشر كان عين النظام القمعي، فمن هذا الطابق اللعين نكل بن علي بمعارضي حكمه داخلياً وخارجياً، وثائق المخابرات كشفت إلى أي مدى توغلت الأجهزة الأمنية في حياة الناس، لقد وصل الحال إلى مراقبة الأحياء والبيوت العادية، فما من شيء وما من صوت أو نفس إلا ولديه في هذا الطابق المخيف ملف وسجل زاخرين بالتواريخ والأفعال المنتهكة لأبسط قواعد العيش بحرية وكرامة .
لم أحدثكم بعد عن صورة الطاغية بن علي أو عن الكتب المؤلفة المطنبة بسنوات حكمه المجيدة؛ فما من زاوية في المبنى تخلو من مجسمات صورته، ما من مساحة شاغرة في المكتبات إلا وتتصدرها كتب المنافقين والانتهازيين الذين أغدقوا الثقافة التونسية بمؤلفاتهم البليدة عن معجزات حاكم قرطاج المدفوعة الأجر من قوت وضريبة الشعب التونسي .
لم أحدثكم عن بقية الطوابق التي استأثرت بها مليشيات الحزب بدءاً من طابق التجار النافذين المستولين على التجارة والاستثمار ولحد هيمنة ليلى الطرابلسي على مدرسة أهلية كانت قد شاطرتها زوجة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (سهى عرفات) .
قبل سنوات كنت أتصفح أسبوعياً مجلة الشاهد اللندنية ،فبرغم احترامي الشديد لنهج المجلة الكاسر لرتابة الكتابة عن القضايا العربية المسكوت عنها, باستثناء بلد زين العابدين تكاد الصورة في بقية البلدان العربية واحدة بؤساً وقتامة واستبداداً ، لطالما أخذتني الدهشة والحيرة إزاء ما يحققه النظام التونسي على صعيد الاستثمار والتنمية والمرأة والخدمات وغيرها, في الوقت الذي لا توجد فيه أية مؤشرات وأرقام ايجابية في بقية الدول .
لكن ما من شيء يظل سراً إلى الأبد, فبعد الإطاحة بهذا النظام تجلت حقيقة الوهم والزيف الذين تم تسويقهما في وسائل الإعلام المختلفة، لقد بدد الرجل مئات الملايين من الدولارات من أجل تسويق ذاته كحاكم استثنائي لا نظير له .
الآن تبدو الصورة واقعية أكثر من أي وقت، الآن فقط وبعد مضي سنة على رحيل أول حاكم عربي مستبد يوم 14يناير2011م يتملكنا إحساس قوي بأن الثورات الشعبية لم تكن سوى بداية لإعادة الاعتبار للمواطن العربي، فإذا كانت الثورة التونسية قد مثلت شرارة الربيع العربي قبل عام فإنها اليوم تنزع ما بقي للطغيان من هيلمة وصولجان وقصور وسلطة مغتصبة..
محمد علي محسن
حديث الثورات من قصر قرطاج 2450