قدر هذا النظام أن يخسر حين يريد الربح، فلا هو اتعظ من الخسارة للمواقف ولا قدم ما يستحق المراوغة. فحين يحدثك عن المبادرة وأهمية الالتزام بها، يحشد جمعاً من الصحفيين للإصغاء إلى ما يجود به من كلام مبعثر، رغبة في إحداث خرق لهذه المبادرة. وبين حديث وآخر مسافة كذبة وحالة تناقض. فهو يريد ولا يريد، ويتطلع إلى الأضواء من ذات العتمة، ويبني مواقف من أزمة يجيد صناعتها. هذا التوغل الذي صار مألوفاً لديه ولا يجيد سواه، دفعه إلى الكشف عن ذاته بكل هواجسها ومخاوفها. فحين يثق بأحد يتطلع إلى الإساءة بأحد آخر. كأنه لا يعيش إلا بين الشيء ونقيضه في آن، ومن هذا الحافل بالمريب والتوجس يأتي على الدوام في حالة فقدان ذاكرة لما قبل، كأنه لم يؤذ أحداً أو يتآمر على أحد.
وبهكذا إعادة اشتغل عليها يبقى النظام مخلصا لعداء نفسه بإتقان شديد وتقديم ذاته التي تجيد ولا تجيد اللعب بالألوان وهي تتماهى جميعها في الرمادي اللون المحبب إلى قلب النظام .لذلك هو مع الدستور والقانون وضدهما، حين يطالب بحصانة تقيه المساءلة عما أقدم عليه من جرائم قتل وفساد وأمور أخرى. وهو مع الشرعية نظاماً ديكتاتورياً، ومع الديمقراطية صندوقاً مزوراً. فلا قبل بالشمولية ومارسها بإرادة قوية، ولا أعطى مجالاً للتعددية السياسية والحزبية تقدم نفسها. هو بهذا ضد المستقبل حين يحاصر الحاضر ومع الماضي حين يهزم الحاضر بكثير من التصلب والانفراد بالسلطة والواحدية في الرأي. ومن هذه الخلطة العجيبة يجيء إلى الشعبي العام ،يخاطبه كتنظيم ويحركه كرقاص الساعة في الاتجاه الذي يريد. هذا النظام –فعلاً- غريب في تعاملاته حتى مع ذاته لا يستقيم له أمر، إلا وعجل بالإجهاز عليه، ولا يبني تحالفا إلا وفقد معه الثقة. لذلك تراه أحياناً مهادن، وأحياناً مهاجم، وبين الهجوم والمهادنة، يتسرب الوهم إلى القلب، فلا يثق، في تعددية ولا في شخوص. ومن هذا الوهم تجيء اخفاقات السياسة، فلا حوار أداره بكفاءة واستطاعة وأخرجه إلى بر الأمان كربان سفينة قيل عنه، ولا تمترس وإنغلاق أوصله إلى ما يريد. أراد التسلط فخسر السلطة ،وأراد التفرد فخسر شعب، وبين الأمرين يقبع في حيرة ،كيف انهزم وكيف يضبط اللون ليتشكل من جديد؟، وإذا هو يبادر إلى المبادرة ويباغت المبادرة ما استطاع إلى ذلك،ومع كل هذا لا هو وصل إلى حصاد، ولا استطاع أن يحرث بالطريقة الملائمة له.لذلك النظام يلاعب مرة ويخاتل مراراً، وفي الأمرين تراوده ظنون النصر ـ وفي تقديرنا ـ نصر النظام أن لا يكون نظاماً بعد هذا المتغير الهائل في الساحات الملايينيه، وأن يخرج منها غانماً سالماً خير له من حمر النعم ،وأن يرى إلى المرآة ،ويحدد بالضبط أين يكمن الاختلال في توازناته؟ هل في العلاقات مع القوى السياسية ؟ أم في الذات الإستعلائية المتشبعة غروراً يأتيها من القوى النفعية؟، وأصحاب المنافع والحظوة لديه وحدهم المستفيدون، فيما الشعب عليه أن يعيش أمنية كهرباء نووية وكلام من عسل. هنا فقط ظهرت حكمة القائد حماقة، فحين غافل الشعب وتغافل عنه، حضر الوصولي بجاهزية تمام يافندم. وهذا التمام هو الذي قاد النظام إلى اللاتمام. لذلك بقي يراوح في (وجهنا وأمرنا) بنوع من الإستخذاء لهذا التسلطي الذي يغيب كفاءات وقدرات ومؤسسات دولة، مقابل كله تمام يافندم، وحين أرد أن يكتشف ماله لم يجد إلا ما عليه، وعليه من الدين ما لا يطيق على رده اليوم . فعودة الهلامي التي أقدم عليها في انجاز سكة حديد –مثلاً- صارت محل تندر. وبين وعد وآخر تتفكك جبهة عليه، ويخسر جماهير، وكأن قدر هذا النظام أن يظل في الخيبة، وخيبته ليست واحدة وإنما مائة وألف. لذلك يناور حين يحاور، ويداري حين يغافل، ويتعهد حين يخسر، وبين كل تعهد وآخر ثمة برنامج جديد، ومساومة أخرى واشتراطات إضافية، ونسف سابق للبدء من جديد، والجديد لديه أن لا يكون هناك شيء، والبدء من أول السطر وكل سطور النظام ذات احتمالات وإيقاع راقص على رؤوس الثعابين أحياناً، وأخرى في حلة تحد شمشوني (علي وعلى أعدائي). وإذاً ليس أمامه سوى جعل المورق حارقاً والسماء دخاناً، والثعابين تتلوى كما يريد، وجعاً أو طرباًَ لا يهم مادام النظام لديه أجندة من النزاعات لكثير من الخصوم، وخصمه أن لا يكون له رجال وفاء وصدق، وأن يجد ضوء القناديل له وللآخرين الظلام، ومن حيث الظلام يطل الضياء لو أنه عرف هذا، غير أنه يسرف في جعل الوطن تابعاً وهو قائداً، وجعل السلطة مغنم له، وللشعب مغرم. هكذا يبدو النظام في موازاة واحدة، ومنها ينظر إلى التعددية أنها لأجله، والصندوق لرضاه، والجماهير لهتاف بالروح والدم، والحياة كلها لراحة باله. وإذاً نحن أمام حالة استراح لها النظام وصارت تمتعه حد الضحك على الوطن والأمم والشعوب. حين يحدد التعامل معها على الطريقة الصالحية (إنها السياسة التي عليهم أن يتعلموها). والسياسة لديه فن المماحكة والمماطلة والتسويف والانتظار المر وخلق الفوضى والإرتباك. سياسته التي لا تتقن المعارضة منها شيئاً وتبدو غبية لأنها لا تجيد الترحيل للأزمات والانطلاق إلى مستوى فن الإمتاع والمؤانسة بينه والوطن. السياسة لديه فقط إيقاع بالآخر حد إدمائه والكركرة حينها، فلامبادرة ولا التزام بتعهدات كأن هذا النظام بهذه الروح المتفردة في اللعب على الأعصاب وتأجيل ما لا يقبل التأجيل يريد الإجهاز على الحياة، ليبدو لاشيء أكثر من الأسى. وبين هذا النظام والأسى، صلة وثيقة مبنية على المواثيق، أن يظل التوتر والتأزيم فن الممكن ما استطاع إلى ذلك سبيلا...
mallawzy@hotmail.com
محمد اللوزي
نظام دكتاتوري مزور 2001