انتصار الثورة لن يكون بانتفاء علي صالح من معناه المحسوس وكل كياناته، بل الأمر أعمق من ذلك بكثير، فالحياة العامة ملوثة بالمتخلف الثقافي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي وكل قاع.
الأمر الذي يستلزم فرض العين على النخبة النزول ببرنامج عملي تحت ضغط السلطة التنفيذية الواعية لتمدين الحياة وتمكين أهل العلم والثقافة الحضارية من التفاعل والتنظير وتعطير الهواء بعبق المدنية المنشودة وتحريك الشعب ككتلة واحدة للبحث عن المدنية وأدبياتها من ثقافة القانون واحترام العمل والوقت بالإنتاج والمضاف وحقوق الآخرين وحرياتهم والديمقراطية والفكر السياسي للجيوب والجماعات خارج نطاق القانون والمؤسسة السياسية.
إذا لم تقنن العلاقات بين الناس على نحو من العدالة والإنصاف وسلطة القانون، والتخلص من ثقافة النظام والتصرفات الشخصية والاجتماعية التي أوجدت الرمز صالح الذي هو الذات الجماعية ومحصلة ثقافية تحملها الشخوص المختلفة.
انتفاضة الثورة لا تكفي، لكنها خطوة في طريق الألف ميل، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فما تم بعون الله الكثير لكن المولِّد للماضي ورموزه يعني تخلص كل فرد من علي صالح المتجسد في ذاته وبين جنبيه، فالصراع بين مطلب الشعب في المدنية ودولة العدل والقانون وعلي صالح هو صراع في ذات كل فرد، فالتغلب الحسي عليه والتخلص منه في الوطن الكبير كصنم لا بد أن يُهدم ويُتغلب عليه في الذات الشخصية لكل فرد حتى لا تعود محسوسيته العامة بفعل الإفراز الاجتماعي التي أوجدت صالح وسيعود باسم آخر تُنْتِجُه الصلاحيات الذاتية مجتمعة عند عدم النحو إلى القبول بالمدنية وثقافتها الحضارية واقعاً أخذاً وعطاءً، فكل ما يمت للجمال والعمل والأخلاق والعقل والروح هو النهضة والبعد عن الماضي وآلامه والجراحات الغائرة التي يجب أن تولد الشعور بالنفور مما يُعيد توليد الماضي، فتمضي السفينة في أمان بعد أن أُمسك على من أراد خرقها، فكانت النجاة بحمد الله للجميع.
فالمسؤولية العامة لا تعني المؤهل وإن كانت تستدعيه، لكنها حياة الضمير والعمل بإخلاص وتفاني من أجل خدمة المجتمع وزرع البسمة في شفاه القلوب قبل المباسم.
فالانخراط في الوظيفة العامة ليس كل الناس أهل لذلك، فالموظف العام له مواصفات شكلية ونفسية يجب أن يتخلق بها ويتصف بها وبحسب الوظيفة، فالمعلم له مواصفات والعسكري له مواصفات والطبيب كذلك وهكذا.
فواضع التوصيف الوظيفي عليه أن يراعي توفر الحس الخدمي لدى طالب الوظيفة العامة وأن يتركز التأهيل والتدريب في تنمية الجانب الخدمي وتوليد الظمأ في نبض الضمير، فلا يهدأ إلا ببث روح الحياة والأمل وزرع البسمة في الآخرين...
ما بعد الثورة تكون هناك أرضية جديدة بالفطرة التي يمكن القول إنها حصل لها إعادة ضبط مصنعي، فيكون الكل منتظر التوجيهات وقابل للعمل وفق مناخ جديد منسجم مع الفطرة والعدل الذي يكفل لكل الشعب حقوقه ويوفر الفرص المتساوية وعليه يكون الحزم في هذه اللحظة هو مطلب ضروري لصناعة الفرق الحقيقي وإنهاء العهد السابق.
النخبة السياسية والعلمية والثقافية وكل أهل، لأن يقدم بكثافة ووعي الكل بما يحمل من تصورات ورؤى متفق عليها في الإطار المدني ودولة العدل والقانون عبر برامج عملية وخطط مدروسة وبالتعاون مع الأجهزة التنفيذية لرفع مستوى الوعي لدى الموظف العام في كيفية التعامل الراقي في وظيفته وعلى أساس أنا لست إلا خادماً وبانتظار أن تأتيني أنت كطالب خدمة أحل مشكلتك أو أقدم لك الخدمة على أكمل وجه مستطاع ومتاح والإرشاد التوجيهي للحصول عليها.
ورفع الوعي المجتمعي بما له من حقوق وما عليه من واجبات، فلا يجب أن يتسرب عما عليه أو يحرم ما له بسبب من جهله، ورفع مستوى وعيه الحقوقي والكيفية اللازمة التي تكفل له الحق والحصول عليه والاستمتاع به.
فكما يكون المواطن ملتزماً بما عليه من واجبات تجاه الصالح العام – سواء في الخدمة العامة والأداء الأمثل أو أي التزامات مالية للخزينة العامة- هي حقوق للمواطن وما دور الأجهزة الحكومية إلا الوسيط والتحصيل على افتراض مثالية ما بعد الثورة والدور الحكومي المطلوب والمفترض.
شكل الحكومة أو الحاكم ومن سيتولى الأمر هو الوجه الحقيقي لنا وما ستفرزه ثقافتنا ومعاملتنا الحياتية، فكما تكونوا يولى عليكم، وهل كان علي صالح إلا الصمت الذي كناه، فما إن علت أصواتنا في الساحات والميادين بكلمة "إرحل" حتى كان مصيره إلى حيث سيكتب التاريخ وتقرأه الأجيال.
"إرحل".. نظرية سياسية بامتياز فاقت كل الأطر الديمقراطية والوسائل في عملية التغيير واستعادة الحق لأهله بعد أن اُغْتُصِبَ وجرت المحاولات بشتى الوسائل والطرق، فما كانت كلها إلا طرق تجديد لشرعية زائفة واغتصاب، ووصلت الشعوب والنخب إلى مرحلة من اليأس حينها أتى نصر الله: )حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين).
كانت هناك طاقة غير مدركة لدى ضاربي الأقداح من علماء السياسية والاجتماع والمستقبليات وكل المحللين والفلكيين وغيرهم ممن يخوضون في إرادات الشعوب والتحولات التي تصنعها بطرق المقارنات التاريخية في كيفية التغيير واستشرافه ولم تُشر لمثل هذه اللحظة الصانعة لعهد جديد، فدورة حياة الظلمة والمستبدين تبدأ كما يصورها مالك بن بني في كتابه: شروط النهضة مرحلة الروح وهي الطاقة والعمل ومن ثم مرحلة العقل والحضارة لتأتي بعدهما مرحلة الغريزة والشهوات وهنا يكون الانحدار وانتهاء الظلمة وهذا ما تنطبق عليه النماذج العربية التي أفل بهم العام 2011م.
توسعة الأرضية المدنية بمعني أن يكون هناك قطاع واسع من النخب والمتعلمين لديهم الوعي الكافي والفاعل المتعدى - قولاً وعملاً- في نشره بين الناس وتحصل الهزة الثقافية اللازمة والكافية لقلب الحياة بأسرع وقت ممكن نحو النهوض الحضاري ويساعد على ذلك مدى الشفافية التي تتمتع بها أجهزة الدولة والمؤسسات في كيفية سير عملها وتوفر المعلومة لمن يطلبها، فيكون الوضوح لدى أي مواطن، فإن لم يقرأ المكتوب يرى الأمر مشاهداً على المكشوف كيف تسير المؤسسية ومسافاتها الصحيحة وأين الانحراف إن رآه فيمسك عليه، فإن كان الأمر كذلك لن تسول لأحد يتولى مسؤولية عامة أن تحضه ذاته على الخطأ إن اِنعدم الضمير، فالرقابة الواسعة سيف مسلط على رأسه، فهو يخشى الفضيحة إن لم يخف الله.
نعم الشباب من صنع اللحظة الحلم والخيال بعد أن يئست النخب واستبدّ بها الحزن (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)، لكن هذا لا يعني المضي في الحماسة دون أن تكون لحكمة الشيوخ دورها في رسم المساقات الآمنة وقد تحقق الهدف إلا القليل.
فكثيرٌ اليوم أن يستشهد شابٌ واحد بعد أن أصبح علي صالح وعائلته بهذا الوضع والعدم السياسي وتحت ذريعة طلب المحاكمة ـ كمن طالبوا بدم عثمان- التي لم يخرج من أجلها من اصطفوا شهداء، بل خرجوا من أجل اليمن الجديد والحياة لمن كتب لهم الحياة، الحياة الحقيقة بكامل أركانها.
فهل يمكن أن تهدأ الضلوع الأججة لسماع صوت العقل في مثل هذه اللحظة العاصفة؟ كلحظة استرخاء من عناء السفر الطويل على بعد عام، فهناك حنان الأمومة وأشخاص وُهِبُوا الحكمة والوطنية يرقبون مسار الثورة لحظة بلحظة وأتذكر قول أحد المعلقين على تحليل الدكتور عزمي بشار في قناة الجزيرة على الثورة المصرية إذ يقول: عزمي بشارة لا يحلل الأحداث، لكنه يقول للثوار في الساحات ما هي الخطوة التالية، وهنا نحن مع فعل الضغط الثوري والمشقة الثورية التي أعيت الكل، فربما لا مجال للتفكير بالشكل الصحيح، فتكون الكفاية من أهل لها عن وطنية وأمانة وتخصص وحب وإخلاص والميزان الثوري غير طفيف عادل يزن فلا يخسر أو يُبْخِس منها شيئاً، ولا إشارة باسم، فإن عرف الحق عرفوا، فهل نسمع؟.
طاهر حمود
التحول العميق.. 1948