تأبى الحالمة إلا أن تكون أسطورة الثورة اليمنية ، فهي المدينة التي أطلقت شرارة الثورة اليمنية الحديثة ، وهي المدينة التي سجل شبابها أروع بطولات الإصرار والتحدي والعزيمة حينما عادوا إلى ساحتهم تحت وابل الرصاص والقنابل بعد إحراقها على غرار الهولوكست، وهي المدينة التي قدمت نساؤها أول شهيدة للثورة السلمية ، وهي المدينة التي أقلقت سكينة الطاغية ونظامه الإجرامي المستبد، فاستقبلت قذائفه وصواريخه ورصاص قناصته بصدور عارية حالمة بفجر جديد ، وهي التي أرسلت أول مسيرة نوعية تقطع مئات الكيلومترات من تعز إلى صنعاء تمر بعشرات القرى والمدن لم يُقطع خلالها غصنُ شجرة ولم ترم خلالها حجرٌ ولا تحمل إلا قوتها وكساءها، فتلقى الترحيبَ والتأييد، لأنها مسيرة تدعو إلى الحياة لهذا الشعب الذي أراد له حاكمه المستبد الموت من كل ناحية ، وهي - الحالمة تعز- جسر الوحدة بين شمال الوطن وجنوبه لذلك سترسل مسيرة راجلةً أخرى إلى عدن تحمل عنوان الوحدة والترابط والاعتصام بحبل الوطن.
لك الله يا تعز؛ تعلمينا دروس الحياة يوماً بعد يوم.. لستُ من تعز.. لكني أفخر بانتمائي لهذا الوطن، لأن بين جنبيه (تعز)، ولن يضيركِ يا تعز أولئك الذين لوثوا اسمك وبطولاتك بانتمائهم إليك، فهم الخبث وأنت الذهب الصافي ونار النضال والبطولة كفيلة بنفي الخبث الزائف .
مسيرة الحياة الراجلة هي إحدى ابتكاراتك الأسطورية أيتها الحالمة ، لقد صنعتِ بها لك مجداً جديداً ، وأعليتِ بها همةً ثائرةً كادت أن تخبو ، وألقيتِ بها علينا دروساً لن ننساها ما حيينا ، وصنعتِ بها لنا تأريخاً نحدث أبنائنا عن ملاحمه جيلاً بعد جيل، من مسيرة الحياة الأسطورية تعلمنا أنَّ :في الموت حياة وفي الحياة موت.
تعلمت هذا الدرس من "قدم" الشهيد التي تقرحت من طول المشي ونشرتها الصحف صبيحة اليوم التالي لوصول المسيرة إلى ساحة التغيير بصنعاء.. يا الله.. قدمٌ متقرحة من طول المسير، ورأس ينزف من رصاصة غادرة .. يا الله .. هذه هي الحياة وربي، ستظل هذه القدم الطاهرة المتقرحة أطهر من يد الغدر التي ضغطت على زناد الموت.. وستظل حية في ذاكرة التأريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وتلك اليد الغادرة وسيدها الذي دفع بها إلى القتل سيواريهم التاريخ في أوسخ مزابله :
علوٌ في الحياة وفي الممات بربك تلك إحدى المكرمات
قبائلنا قمةٌ في التحضّر والتمدن:
كنت أتابع سير مسيرة الحياة لحظة بلحظة خاصة عندما اقتربت من صنعاء ، اتصلت بأحد المشاركين .. سألته: أين وصلتم ؟، فأجاب مستفزاً مشاعري: اعترضتنا قبائل خولان وأقسمت ألا نتقدم خطوة واحدة !! قلت له: مستحيل؛ قبائل خولان من أول القبائل المناصرة للثورة ، ولا يمكن أن تعترض المسيرة إلا مرحبةً ومؤيدةً.. فأجاب: نعم؛ هو ذاك ، لقد أقسموا ألا تتقدم المسيرة خطوة واحدة إلا بعد تناول وجبة الغداء التي أعدتها قبائل خولان ترحيباً بالمسيرة.. لم أتمالك نفسي ، احتقنت عيناي بدموع الفخر، وتخيلت أبناء خولان شبابها وأطفالها وهم يتبادلون المهام ويفرشون الموائد ويقفون على رؤوس الثوار يخدمونهم ويرددون عليهم التحايا والزوامل الترحيبية ، ثم صرخت: هذه هي القبائل التي وصفها (صالح) في ذات مقابلةٍ بالتخلف، هذه هي الثعابين التي ظلّ يرقص على رؤوسها ثلاثاً وثلاثين سنةً كما كان يردد.. ما أغباك أيها المستبد وما أحمقك، ثلاثاً وثلاثين عاماً لم تفهم فيها أنك تحكم شعباً في قمة التحضر والتمدن، كان يمكنك أن تصنع به المعجزات ولكن: لقد فاتك القطار.. فاتك القطار.. فاتك القطار.
للمجد أقوامٌ وللعار آخرون:
نعم؛ للمجد ثائرٌ حرٌ مسالم ، وللعار بلطجيٌ مستعبدٌ مجرم.. للمجد شهيدٌ خالدٌ ثائر، وللعار قاتلٌ مأجورٌ غادر .. للمجد جنديٌ يحمل بندقيته دفاعاً عن الثوار ، وللعار آخرُ في معسكر القتلة الفجار.. للمجد (شهداءُ مسيرة الحياة) مجاهد وتوفيق ونشوان ومعتوق وعبد الناصر وفكري والأحمدي وعبير الفاتن ، والعار والخزي للقتلة بقايا النظام.
د. رياض الغيلي
من وحي مسيرة الحياة الأسطورية 1724