كان من أبرز المطالب السياسية الشعبية للثورات العربية ومنها الثورة اليمنية إقامة "الدولة المدنية".. دولة النظام والقانون والمؤسسات والحقوق والحريات العامة والمواطنة المتساوية والعدالة وفصل السلطات واستقلالية القضاء..
وقد أثار هذا المصطلح مخاوف البعض وشكوكهم تجاه شرعية هذه الدولة، كون هذا المصطلح ليس له حقيقة شرعية في كتب الفقه ولا الدساتير والقوانين الوضعية ولتصريح بعض العلمانيين بحمله على مفهوم الدولة المدنية العلمانية اللاتينية.
والذي يظهر أنه لا حقيقة أيضاً لهذا القلق والتوجس وكثيراً ماصب دافع الحذر وثقافة التمنع في خدمة المشروع المعادي، الحذر من المشاركة السياسية واقتحام المجال الإعلامي والجامعات المختلطة وتقنيات الجوال والانترنت.. الخ لما تشتمل عليه من مفاسد ومحاذير.. ويجدر التنبية للأتي:
1. المفهوم العرفي اللغوي عن أهل الاختصاص للدولة المدنية كما سبق ذكره.
2. لا ينبغي أن تستفزنا التفسيرات العلمانية للدولة المدنية، فقد فهموا من قبل مفاهيم العدالة والحرية والحقوق الإنسانية والديمقراطية..الخ وفق مبادئهم.
3. ضمانات غالبية الجمهور، لاسيما هدير الساحات والميادين اليوم ضمان للتعاطي مع الديمقراطية وفق ثوابت الشريعة، فالدولة المدنية من باب أولى وكذا ضمان الدساتير الإسلامية وما اشتملت عليه من أن الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع ودين الدولة الإسلام.. وفي دستورنا اليمني ما هو أعظم، حيث الإسلام مصدر كل القوانين والتشريعات مما يسهل معه التطبيق والتفسير، لا سيما مع ما تشهده من فشل المشروع الغربي الاستعماري في العراق وأفغانستان وما ابتلوا به بسبب الاقتصاد الربوي من أزمات مالية عالمية وسقوط الأنظمة الاستبدادية الفاشلة والعميلة لها في كثير من دول المنطقة "تونس ومصر وليبيا واليمن" وبروز المشروع الإسلامي في المغرب وقريباً سوريا بإذن الله وغيرها.
4. الدولة المدنية ـ عرفاً ـ لا تأتي في مقابل الدولة الدينية ـ ولكن في مقابل الدولة القبلية والعسكرية، فيقال: "زي مدني" في مقابل العسكري، و"مجتمع مدني" قي مقابل القبيلي مثلاً، حيث السلطة المطلقة للقبيلة والعسكر، مخالفة بذلك دولة النظام والقانون "الدولة المدنية".
5. أما ما يقصد به البعض من تفسير الدولة المدنية بالدولة اللاتينية، فصحيح فقط إذا حملناه على مثل الأنموذج الذي مارسته الكنيسة في العصور الوسطى من رفض دولة العلم وتعطيل العقل واستعباد الملوك ورجال الدين "الباباوات" لشعوبهم وإدعائهم "الحق الإلهي" وتمثيل الله تعالى في الأرض وممارسة أبشع صور الطغيان الديني والمالي السياسي.. الخ وكذا الأنموذج الإيراني في إعطاء السلطة المطلقة للملالي ورجال الدين وولاية الفقيه والمؤسسة الدينية الحاكمة ومجلس الخبراء وتشخيص النظام وتبني ظلم شريحة السنة ومعتدلي الشيعة والخرافات!!.
6. وأما ما قد يكتنف الدولة المدنية من تجاوزات شرعية فهي مفردات جزئية وليست أصولاً كلية يمكن تداركها وفق سياسة التدرج والمرحلية ـ كما سيأتي ـ لا سيما مع توفر ما سبق من ضمانات.
7. لا يجوز تشويه صورة الإسلام في حصره بمجرد حدود وعقوبات "القطع والرجم والجلد" كونها إجراءات شرعية تدخل في مفهوم العدل الشامل والذي يعتبر في صميم مقاصد الشريعة الإسلامية وجاءت الدولة المدنية بحفظه (إن الله يأمر بالعدل والإحسان...) فتحقيق العدل لأجله بعث الله الرسل وأنزل الكتب (لقد أرسلنا رسلنا بالبيات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).. العدل في كل مجال ومع كل أحد، حيث أدى غيابه وتعطيله إلى هذه الثورات المباركة وتقديم التضحيات الغالية.
العدل في تطبيق ا لنظام والقانون مع القريب والبعيد والقوي والضعيف والمسلم والكافر (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) (ولا يجر منكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا).. العدل في القضاء والحكم والولايات العامة والخاصة (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) وفي توزيع الثروة وفرص الدراسة المجانية والعلاج المجاني والوظيفة والترقية وفي السلك المدني والعسكري والدبلوماسي ومع رجال المال والأعمال والنقابات والأحزاب وتعيين الوزراء والمدراء وتحصيل إيرادات الدولة.
8. ضرورة فهم المعترضين على الدولة المدنية وكذا الخائضين تحدياتها الكبيرة ودهاليزها المظلمة على ضوء القواعد الفقهية والسياسة الشرعية ويمكن إجمالها بالآتي:
أـ مراعاة فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد فتتقدم المصالح والمفاسد.
ب ـ مراعاة فقه الأولويات "بتقديم الأهم فالأهم" كحتمية الإيمان قبل بيان الأحكام وإصلاح الاقتصاد وإقامة العدل قبل الانحرافات الأخلاقية المعقدة كما فعل أردوغان.
ج ـ فقه التدرج "البطء قانون التغيير" وفقه المرحلية"، عدم استباق المراحل أو القفز عليها، كما أن لمرحلة الاستضعاف فقه غير مرحلة القوة والتمكين ولذلك انيطت الأحكام بالقدرة والاستطاعة (فاتقوا الله ما استطعتم).
د. المشقة تجلب التيسير (وما جعل عليكم في الدين من حرج).
هـ سقوط الواجبات بالعجز والمحرمات بالضرورات، والإكراه يسقط التصرفات (إلا من أكره وقبله مطمئن بالإيمان) حيث عذر الله ورسوله عمار بن ياسر لتلفظه بكلمة الكفر وسب الرسول لاستنقاذ نفسه من القتل فإنقاذ المجموع والدولة، وما دون الكفر من باب أولى!!..
وفي السيرة النبوية الشريفة، حيث لم يهدم الأصنام طيلة العهد المكي(13) سنة، ونزول الأحكام بالتدرج ومنه مرور تشريع الجهاد وتحريم الربا والخمر بمراحل وإقامته صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية رغم شروطه الجائرة وهمه صلى الله عليه وسلم بتسليم ثلث ثمر المدينة مقابل تنحيهم عن المشاركة في قتاله "تحييدا للأعداء" وعدم إقامته الحد على رأس النفاق "مراعاة لفقه العواقب والمآلات" معللاً بقوله: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) ولذلك خرق الخضر عليه السلام السفنية وأصلح الجدار وقتل الغلام الزكي.
وـ قاعدة (ما لا يدرك جله لا يترك كله) و "الميسور لا يسقط بالمعسور" حيث والشريعة جاءت (لتحقيق المصالح أو تكميلها ودرء المفاسد أو تقليلها) ولهذا أقيم حد القذف على حسان ومسطح، حمنة ولم يقمه على رأس النفاق.
ز. قاعدة سد الذرائع "الوسائل" عن المحرمات ومن المحرمات تعطيل مصالح الدين والناس، وكما شرع سد الذرائع عنها، تفتح الذرائع أيضاً للمصالح والواجبات، ومن ضوابط القاعدة أن (ما حرم للذريعة أبيح للحاجة وللمصلحة الراجحة)، كما تضبط بقاعدة (الوسائل لها أحكام المقاصد) وقواعد تعارض المصالح والمفاسد، كون الذرائع وسائل والغايات المراد صدها مفاسد.
ح ـ السياسة فن الممكن وتخضع لباب المصلحة والمفسدة ويراعى فيها العقل والحكمة والقدرة وفي مثل هذه الظروف والتحديات الكبيرة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقام الحدود وتقطع الأيدي في الغزو كما صححها الألباني وهو نوع عدم إعمال لحكم الشرع ومثله عدم إقامة حد القذف في حق ابن سلول للضرورة وترتب المفسدة الأعظم والواجب حسن الظن بالعاملين والتفهم لهم وتعطيل مؤامرات الأعداء في مراهنتهم على فشل المشروع الإسلامي وصدق الله (ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)..
عمار ناشر العريقي
لدولة المدنية.. إسلامية 2176