تعدد الآراء والأفكار والرؤى وتنوعها وإثرائها جانب إيجابي يعرفه العقلاء دون سواهم في تطور الحياة، بل والحضارة بشكل عام.
غريب في منطقنا اليوم من جند نفسه وأتباعه لمحاربة التنوع، بحجة المخالفة لرأيه الذي هو الصواب وغيره الباطل, لقد عمل على أن يقضي على التنوع بحجة الوحدة خير والفرقة عذاب, فهل أصاب صاحبنا في مذهبه أم في فهمه وتذوقه للجمال خلل..
كثير هي مشكلات المسلمين اليوم وبتأمل بسيط في الكثير منها إن لم تكن أغلبها شيوعاً، فليست سوى الضيق والتذمر من الرأي المخالف، وما ينجم عن هذا الضيق من تبعات .. أنه تاريخ الصراع تاريخ الضيق بالأخر فهل كان ذلك إلا تاريخٌ أسود.!
ألم يتحول ذلك الضيق من ضيق في النفس إلى حروب طاحنة ودماء سيالة، وجماجم وأشلاء وعبث وبلاء، إنها فضائع يشيب لها الولدان فلا زالت باقية ينفخ في رمادها صدور ضيقة وعقول متحجرة فلم ينطفئ أوارها حتى اليوم، والعجيب في أصحابها ومعتنقيها لم يأخذوا من التاريخ العبر، وما زالوا سائرين على ذاك الأثر .!؟
إن بلوى المذهبية وكوارثها المتلاحقة عبر القرون ومآسيها على المسلمين لم تكن إلا نتاج لطبيعة الضيق بالتنوع والتعدد. فكان الإرهاب والتطرف والتشدد وهي أوجاع تراكمت بفعل غياب التنوع وحسن الاختيار وفن إدارة الخلاف.
من يتأمل في أحوال الحضارات التي قطعت شوطاً كبيراً في التقدم، سواء تلك التي نراها من حولنا أو تلك التي كنا في يوم من الأيام رواد لها، سيجد أن الكثرة في الأفكار و التنوع في الإفهام وحفظ ذلك التنوع وتشجيعه كان سر النجاح وعامل التميز.
فهل قامت دولة الإسلام كحضارة إلا عندما جمعت الآراء المتعددة والأفكار المتناثرة في مكان واحد. لم يفعل النبي الكريم سوى فهم جيد لإدارة الخلاف والتنوع بين أصحابه، وقد أحسن النبي الكريم في ذلك أيما إحسان.
فهذا صهيب الرومي، وهذا سلمان الفارسي، وهذا بلال الحبشي، وهذا عمار العبد, وهذا عمر القرشي وهذه مكة وهذه المدينة وهذه القبائل وتلك الممالك والقرى ووو ..إلخ.
لم يفعل سوى حسن الإدارة للتنوع و الخلاف فانطلق الإسلام وكانت الحضارة الإسلامية التي نتغنى بأنها أبهرت العالم وذلك صحيح ولكن لم يكن ذلك إلا عندما ساد التنوع بأبهى صوره.
وهل أصاب المسلمين وحضارتهم الضمور والسقوط إلا عندما قتل التعدد وساد الرأي الواحد،فعادت الفرعنة وحجب النصح، وتقدم النفاق وساد الشقاق وتوارى الصادقون فقولهم مختلف وهو خلاف يهدد البقاء ومحو هذا الفكر قربة إلى الله و فكان السقوط المباشر بالانتظار.
عندما تقدم سؤالاً لعلماء ومفكري الأمة لماذا سقطت حضارة المسلمين؟ يجيب عليك للتو.. عامل التقليد هو السبب، وعندما تتأمل في حقيقة التقليد لن تجده سوى سيادة الرأي الواحد وموت التعدد.
إن من يبحث في التاريخ الإسلامي سيجد أن فترات الوهج الفكري والعلمي، كان عندما ساد التنوع في الأفكار وشجع الجميع على زيادة التنوع في الأفكار والرؤى، وعندما ساد الرأي الواحد الذي لا شريك له توفى التعدد وتوارى ذلك الوهج مباشرة وتلك سنة جارية في الأمم والحضارات.
من يحارب التعدد اليوم وما أكثرهم، إنما يحارب فكرة الخلق التي أرادها الله لهذه الحياة كي تزتان بها الحياة فكان ذلك "ولا يزالون مختلفين إلا ما رحم ربك ولذلك خلقهم".
كثيرٌ هم الذي غابت لديهم حاسة جمال التنوع، فتراهم يحفرون الحفر وينصبون المشانق لقتل الأفكار، ولم يكن سوى قتل للحياة بكل تفاصيلها..
ومن يحارب التنوع بحجة الاختلاف المذموم، فهو يجهل الفرق بين الخلاف والاختلاف وتلك آفة تكفي لموت ضمير صاحبها وفساد رأيه..
إن صاحب الفطرة السليمة ليفهم بسهولة ووضوح أن للحياة معانٍ جميلة ورائعة، وليس التنوع سوى سر ذلك الجمال كله ومخبئه..
وفرق بين الرأي الواحد والفهم الواحد الذي نصب الكثير أنفسهم مدافعين عنه لا يتعدونه قيد أنملة.. إلى التعدد في الآراء والتنوع في الإفهام، فذبلت أفهامهم وتعفنت أفكارهم، وماتت الحياة من حولهم.
تغافل القوم أن الله واحد فرد صمد وقد جعل الواحدية خاصة به دون سواه ونفاها عن خلقه "ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون" و"قل هو الله أحد.."، فتأمل في حكمة هذا التنوع وستجد الجمال أمامك في أبهى صورة .
فهد سلطان
التنوع والتعدد منطلق البناء الحضاري 1922