انقضى العام الأول على اندلاع ثورات الربيع العربي، الربيع الذي تفتحت فيه آمال الأمة قاطبة نحو غد مشرق بلا حكام طواغيت، وتلك الثورات التي أنارت الدرب للشعوب المتطلعة لمستقبل لا وجود فيه لبقايا الماضي الفاسدة والمتخلفة من أشكال الحكم الاستبدادي الذي رزحت الشعوب تحت نيره عقوداً طويلة من الزمن.
جاء الربيع العربي وسط صيف قائض من الهزائم وشتاء قارس من الذل والهوان وخريف مرعب مليء بالسقوط والانتكاسات التي مني بها العرب لأمد يزيد عن نصف قرن.
انقضى العام الذي صار يعرف بالربيع العربي، ولا تزال شعوبنا تتطلع للنهوض من كبوة الأمس التي أقعدتها عن الحركة عشرات السنين فيما العالم حولها يموج بالحركة الدءوبة والسعي الجاد والبناء والتنمية، انقضى عام الربيع بينما أزاهير العروبة لا تزال تتفتح في وجه شباب الثورة الخالدة في كل أقطارنا من المحيط إلى الخليج،
في البدء كان الشاب التونسي "محمد البوعزيزي" يضرم النار في جسمه إثر حرمانه من فرصة البيع في أحد الشوارع من قبل الشرطة، و بعدها اشتعلت تونس ثورة عارمة لم تهدأ حتى غادرها الرئيس بن علي هارباً مخلوعاً ومطلوباً للمحاكمة مع باقي زبانية حكمه المستبد.
ومن يومها اشتعلت الثورات في مصر واليمن وليبيا وسوريا والبقية في طريقها، ولم تقتصر على البلدان العربية، فقد تجاوز تأثير هذه الثورات حدود الوطن العربي إلى أوروبا والصين وروسيا وأميركا وغدا المتظاهرون يحيون فعالياتهم على الطريقة العربية.
أضرم البوعزيزي النار في جسده، لكن عروش الطغاة كانت الأكثر تضرراً من تلكم النار، لقد فقد البوعزيزي حياته، لكنه لا يدري أي حياة صارت الشعوب العربية تحياها بعد موته، لم يدرك حين أشعل النار في جسده أن قصور المتخمين في جملوكيات العرب ستكون محط الأنظار من قبل الجموع الثائرة والهادرة والزاحفة صوب غدها المشرق ومستقبلها الجديد الخالي من فيروسات الاستبداد والظلم والقمع والجريمة والفساد.
في هذا الربيع تعلمت الشعوب كيف ترد اعتبارها لنفسها دون انتظار الإذن من شرطة القمع و أمن الرئاسات و حرس الزعامات المحنطة وراء الأسوار الشائكة والقصور المحصنة، لقد خرجت عن بكرة أبيها لاسترداد الحق المغتصب و استعادة الكرامة المهدورة،
خرجت الشعوب إلى الشوارع كما لو كانت تخرج لأول مرة، خرجت لا لتمجيد شياطين الحكم و سدنة الاستبداد و رموز الظلم والفساد، و لكن لاقتلاعهم من جذورهم و رميهم في مزبلة التاريخ،
خرجت الشعوب إلى الشوارع على مدى عام كامل، وبعضها لا يزال مرابطاً في ساحات الثورة وميادين التغيير متسلحاً بإيمان بثورته لا يلين وعزيمة على المواصلة لا يتسرب إليها ضعف أو فتور، إيمانه بحقه الذي ظل مصادراً لعقود طويلة وآن الأوان لاسترجاعه.
كانت شعوبنا العربية تخرج إن خرجت في الصباح تطالب بالخبز لتعود أدراجها عند الظهيرة وقد فقدت ما هو أهم من الخبز، أما اليوم فهاهي تخرج ولن تعود إلا بأوطانها الضائعة ومواطنتها المصادرة وحقوقها المسلوبة وحرياتها المنتهكة، ولن يقف أمام تيارها الهادر أية قوة مهما بلغ طغيانها وعسفها وإرهابها وهمجيتها، و قد جربها بعض طغاة العرب، لكن النتيجة كانت عكسية حين سقط عتاولة الاستبداد تحت أقدام الجماهير الغاضبة.
يحسب لهذا العام أنه عام الشعوب العربية بامتياز، انتصرت فيه لإرادتها الحرة وشبت عن طوق الحكام، أسقطت كل أقنعتهم الزائفة، وأوقفت مشاريعهم الهادفة لاستدامة حكمهم الآسن الذي وصل لأرذل العمر وأسوأ المراحل،
في هذا العام أسقطت الشعوب أربعة أجهزة أمنية قمعية عرفت ببطشها بخصومها السياسيين وتنكيلها بالمواطنين، وظلت سنيناً طويلة تحمي عروش الفاسدين المتخمين بأقوات الشعوب، ومن تونس كانت البداية ولحقتها مصر واليمن وليبيا ولا يبدو أن قوة محصنة تجاه الشعوب حين تثور.
وفي هذا العام تجلت أعلام وعلامات ومعالم جديدة، خلافاً لتلك التي ظل إعلام الأنظمة ينفخ فيها ويطوف حولها ويمارس التضليل بشأنها، برز البوعزيزي كباعث ثورة كما ظهر شباب العصر الحديث في كل بلدان الربيع زهوراً جميلة تفوح ثورة ورفضاً وتتطلع لمستقبل آمن من القمع والكبت والمصادرة والإقصاء، كما تجلت الشعوب في أسمى ثوراتها وهي تتصدى لرصاص القتلة بصدور عارية، إلا من الإيمان بعدالة قضيتها وسلمية نضالها، ولن تضيع الحقوق مادام وراءها شعوب حية، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
فؤاد مسعد
في ذكرى مرور عام على الربيع العربي 2567