كان ذلك في نهاية شهر مايو 2011، حينما حذرت الأمم المتحدة من أزمة ثقة محتملة في الدولار، وربما انهياره، إذ واصلت قيمته في الهبوط أمام العملات الأخرى.. ومثل هذا التطور النابع من انخفاض قيمة الحيازات الأجنبية بالدولار إذا حدث فقد يعرض النظام المالي العالمي للخطر، حيث أن سعر صرف الدولار أمام سلة من عملات أخرى رئيسية بلغ أدنى مستوياته منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي، وهذا الاتجاه حرك جزئياً في الآونة الأخيرة الاختلافات في أسعار الفائدة بين الولايات المتحدة واقتصادات رئيسية أخرى، وتنامي المخاوف بشأن مدى إمكانية استمرار الدين العام الأميركي ونصفه مستحق لأجانب.
بناءً على ذلك فإن مزيداً من الخسائر المتوقعة في القيمة الدفترية لحيازات الاحتياطيات الأجنبية الضخمة، قد تطلق أزمة ثقة في عملة الاحتياط، ما يشكل خطراً على النظام المالي العالمي بأكمله.
والخطر الذي يلوح في الأفق يتمثل في أنه إذا حدث أن الاقتصادات الناشئة بدأت على نطاق واسع بيع الدولارات، فإنه سوف ينشأ خطر انهيار الدولار، والعوامل تتراكم على نحو متزايد إلى درجة أن يكون الوصول سريعاً إلى مرحلة صعبة إذا لم تتحسن الأمور الأخرى على الجبهات المتعددة، مثل خطر عجز الولايات المتحدة عن أداء أعباء خدمة ديونها، الكثير من الخبراء تساءلوا هل ينبغي أن يبقى الدولار عملة الاحتياط الوحيدة في العالم؟ وعبر آخرون أيضاً عن قلقهم بشأن الأوضاع المالية العامة للولايات المتحدة.
ونشرت الأمم المتحدة تقييماً للاقتصاد العالمي، حيث أشار إلى أن الانتعاش من الأزمة المالية لعام 2008م مازالت تقوده الصين، والهند، والبرازيل، لكن أفاق نموها تتراجع بسبب المخاوف من التضخم وفقاعات أسعار الموجودات المحلية.
وأفاق النمو العالمي يمكن أن يبلغ معدل النمو 3.3% عام 2011م، 3.6% عام2012، مقارنة مع 3.1% و3.5% على التوالي.. الولايات المتحدة تعطي الدولار وضعاً مميزاً كأول عملة مرجعية في العالم، ومشكلات بنيوية تكمن في مديونيتها وتراجع التصنيع وفقدان القدرة التنافسية والتباين الاجتماعي.
الرئيس أوباما دافع عن عملة بلاده وأشار إلى أن الولايات المتحدة تستمد موقعها أولاً من تفوق عملتها على الإطلاق، فمكانة الدولار لم تتأثر بكل الاضطرابات التي جرت مدعومة بقطاع مالي وطني قوي جداً وبثقة البنوك المركزية الأجنبية.
غير أنه تناسى أن قيمة الدولار قد فقد بريقه، فهو اليوم في أدنى مستوياته منذ عقود، مقارنة بعملات كبار شركاء الولايات المتحدة التجاريين.
وهذا التراجع في سعر الدولار حجب إلى حدٍ ما تراجع قدرة البلاد التنافسية الذي يشعر به السكان حين تكون الغالبية الكبرى لمنتجات استهلاكهم اليومي عبارة صنع في الصين.. الولايات المتحدة تفقد أفضليتها التنافسية، فالوظائف تنقل إلى الخارج، حيث تراجعت حصة البلاد في صادرات السلع في العالم من 12.1% 2003 إلى 8.4% عام 2010.. وأغلق أكثر من عشرة آلاف مصنع منذ عام 2003، مع إلغاء هذه الوظائف في القطاع الصناعي ازدادت الفروقات بين حاملي الشهادات والعمال غير المؤهلين، وبين المناطق والمجموعات الأثنية.
عملات الظل تهدد سيادة الدولار العالمية، فقد أصبح الفرنك السويسري كملاذ آمن يرتفع أداءه في أوقات تفادي المخاطر، بينما الدولار الكندي والاسترالي تزيد قيمتها عند تحول المستثمرين الباحثين عن المخاطر إلى السلع، وتحديداً سنة 2011م عندما ارتفعت العملات الثلاث مقابل الدولار واليورو.
وتم تداول العملات الثلاث في أسواق النقد الأجنبي، وهي تمثل مجموعة بديلة من عملات الظل للمستثمرين الباحثين عن أفكار تساعدهم على التوجه نحو الاقتصادات العالمية الرائدة الثلاثة لأميركا والصين وألمانيا.
المستثمرون في العادة يستخدمون الدولار واليورو والين الياباني للرهان في الاقتصادات الرئيسية، لكن أصبحت هذه العملات الثلاث مجموعة تداول غير ملائمة، وفي آسيا تمكن الاقتصاد الصيني من التغلب على نظيره الياباني، وفي أوروبا احتضنت منظمة اليورو ألمانيا، لكنها جلبت المتاعب لأعضاء آخرين مثل اليونان وظل الاقتصاد هشاً في أميركا بعد انهيار الائتمان.
ونتيجة لذلك اتجه المستثمرون نحو عملات بديلة، حيث اكتسب الفرنك السويسري والدولار الكندي والاسترالي ظهوراً واضحاً على مستوى التداول اليومي في أسواق العملات العالمية وفي تكوين احتياطات النقد الأجنبي لدى البنوك المركزية.
أحد الاقتصاديين الأميركيين أشار إلى أن الاقتصادات عليها أن تجد طرقاً أخرى لحماية نفسها من الأزمات العالمية غير تكديس أوراق الدين الحكومية ا لأميركية.. وإن من أذون وسندات الخزانة الأميركية وديون البلاد المتقدمة الأخرى ربما تتميز بالسيولة، لكنها أبعد ما تكون عن الأمان.
والاقتصادات الناشئة التي تسعى لحماية نفسها من الصدمات العالمية عن طريق شراء الديون الأميركية بشكل فردي ستكون أفضل حالاً إذا اتحدت معاً لإنشاء صناديق مالية يمكن اللجوء إليها في الأزمات.. هذا سوف يمنح الاقتصادات الناشئة دعماً عند الحاجة من دون إرهاق محافظ الاستثمارات الوطنية بديون قد تواجه تعثراً.
ومستويات الاقتراض العام المرتفعة بشكل حاد وآفاق النمو الضعيفة في الولايات المتحدة تعني أنه بمرور الوقت سيواصل الدولار تراجعه، مقابل عملات الأسواق الناشئة التي تسجل معدلات نمو أعلى وهو ما يؤدي إلى تآكل قيمة الاستثمارات الأجنبية للبلاد الناشئة.
هذه المخاطر ليست على المدى الطويل فحسب، وقوف الولايات المتحدة على شفا التخلف عن السداد في وقت سابق بعد رفض المشرعين رفع سقف الاقتراض العام قبل التوصل إلى اتفاق لخفض العجز جعل المخاطر المحتملة تنطوي عليها حيازة الدين الأميركي واضحة للغاية، كما في الأحداث الأخيرة في منطقة اليورو، لأن المستثمرين المحليين والأجانب في السندات يمكن أن ينقلبوا على دولة تواجه صعوبات ولها مستويات دين مرتفعة.. وهذا لا يترك للدول سوى مساحة ضيقة جداً لخفض الإنفاق ويتسبب في كارثة.
الولايات المتحدة دولة كبيرة ولها مكانة خاصة ومركزية في التمويل العالمي، لكن تسامح مستثمري السندات قد تكون له حدود، ولا يزال الدولار عملة الاحتياطي الرئيسية للعالم منذ فترة طويلة، ومنذ الأزمة المالية بنت الاقتصادات الناشئة احتياطياتها عن طريق شراء أذون سندات الخزانة الأميركية ويدون حفنة من الاقتصادات المتقدمة الأخرى.
وأي تغيير قد يضر بقدرة الولايات المتحدة على الاقتراض بأسعار فائدة مخفضة على الرغم من ارتفاع مستويات الدين، هذا قد يقلب الطاولة في عالم كانت الدول المتقدمة فيه عادة هي التي تمارس الضغوط على الدول النامية لكي تسيطر على أوضاعها المالية.
وحان الوقت للاقتصادات المتقدمة أن تتجرع دواء الإصلاحات الاقتصادية الكلية والهيكلية التي طالما وصفته للأسواق الناشئة.
هامش:
1. الاتحاد الاقتصادي 27/5/2011م.
2. الاتحاد الاقتصادي 10/8/2011م.
3. الاتحاد الاقتصادي 28/8/2011م.
4. الاتحاد الاقتصادي 29/8/2011م.
د.علي الفقيه
أزمة ثقة في العملة العالمية الدولار 2192