بغض النظر عن اتفاق أو اختلاف تقييم فرقاء الساحة اليمنية لحكومة الوفاق الوطني، إلا أن الجميع يقرون ويستشعرون أن هذه الحكومة شكّلت لحظة فارقة في الزمن السياسي المألوف، والذي تمدّد بقوة دفعه الخاص خلال عقود ثلاثة من حكم الزعيم الأوحد، كما أن هذا التشكيل جاءَ ليتوّج كفاحاً سياسياً مريراً خاضته أحزاب اللقاء المشترك، الممتدة ضمناً وأساساً في ساحات التغيير.
كما جاء التشكيل تُرجماناً لنقطة محورية في المبادرة الخليجية، التي بدأت تأخذ مجراها منذ أن وقّع الرئيس صالح عليها في العاصمة السعودية الرياض، وبحضور خليجي وأوروبي ودولي عزّز الحل السياسي، بل جعله برنامج عمل تنفيذياً زمنياً لا بد منه، ومدخلًا لشرعنة الشرعية الجديدة المستندة على المبادرة أولاً، والقرارات الأُممية ثانياً، وما يتبع ذلك من تعديلات دستورية، وآليات عمل جديدة، وفق إدارة مغايرة للدولة اليمنية.
ذلك ما أقر به الرئيس في اجتماعه الأخير مع قيادات المؤتمر الشعبي العام، وترافق معه إقراره الناجز بالتسليم السلمي للسلطة، مع حديث ضاف لنائب الرئيس المُخوّل بصلاحيات الرئيس، لتكتمل بذلك حلقات المشهد السياسي الانتقالي على المستوى النظري، ولينتظر الجميع إصلاحات ما بعد التوافق الحكيم الذي كان لا بد منه.
حكومة الائتلاف الوطني برئاسة المعارضة، تناصف الحقائب الوزارية، وتظهر في المشهد وجوه صالحة، وربما بعض الوجوه الكالحة، لكن السائد في الحكومة أنها لم تعد تُشابه تلك الحكومات التي كانت تخرج في رابعة ليل أو نهار، لتحمل بصمة الرئيس صالح، ومنطقه الخاص في قراءة التوازنات الممتدة من القبيلة المشوّهة، وحتى البنك المركزي المُستباح، وصولاً إلى الجماعات الصغيرة المنتفعة تحت مظلة التعددية والديمقراطية، التي تفصّلت على مقاسات السلطة وبتقديراتها المحضة، وبقبول صامت مُهادن من طرف كثرة كاثرة من قيادات وقواعد المؤتمر المغلوبة على أمرها، طوعاً وارتهاناً.
لكن هذا التعميم لا يلغي البتة مأثرة تلك القيادات المؤتمرية، التي ترجّلت من سفينة الفوضى والفساد لتسجل مواقف وطنية مشرفة منذ ما قبل الربيع العربي، وبصورة أخص بعد جمعة الكرامة، يوم أن تحوّل العنف المؤسسي ضد الجماهير إلى مناسبة استثنائية لتعمْلّق مكانة ومركزية ساحات الحرية والتغيير في عموم المدن اليمنية، لنشهد ملْحمة تاريخية فريدة التجاوز لعموم الساحات العربية، تنظيماً وسلماً، وتماسكاً.. ملْحمة أظهرت حكمة اليمانيين، وقدرتهم على شطب الصورة النمطية الجائرة التي كانت تسم اليمانيين في مختلف أرجاء العالم.
النضال السلمي، ووحدة الهدف، والتماسك، والصبر على المكاره، وإدارة ساحات التغيير بروحية تجاوزت بمراحل مؤسسات الدولة المنخورة بالتفلت، وسرقة الأموال العامة.. كل هذه المحطات شكّلت صورة الساحات وأبعادها الأخلاقية الملْحمية التطهُرية الناجزة.
اليوم تغير المشهد، ومن يراقب عن كثب مُستنداً إلى لغة الإشارة ومنطق الاتصال غير اللفظي الذي بدا واضحاً في الجلسة المؤتمرية الأخيرة، سيكتشف دون أدنى ريب أن المؤتمريين الأكثر رجاحة في العقل، وتجربة في السياسة، لم يعودوا قادرين على التسليم الاختياري بمستقبل يزيدهم تهميشاً.
وبهذه المناسبة أتذكر النصيحة الحكيمة للشهيد الكبير جار الله عمر قبل حرب 1994 المشؤومة، والتي اطلعت عليها في وثيقة سياسية ضافية للراحل الكبير، مطالباً فيها الحزب الاشتراكي اليمني بالرهان على المستقبل، والتخلّي عن تقاسم السلطة، والالتحاق بالمعارضة المعانقة للشارع اليمني وأمانيه وآماله العريضة، استناداً إلى تجربة الحزب ومكانته الكبيرة في الحركة السياسية الوطنية اليمنية، ووحدويته، وإنجازاته الاجتماعية الباهرة التي كانت تشكل ملمحاً من ملامح البهاء التاريخي لدولة محدودة الموارد، تمكّنت من اجتراح توحيد 21 سلطنة ومشيخة وإمارة يمنية جنوبية.
كما تمكّنت من تأمين الغذاء والكساء والدواء لمواطنيها، ونالت مكانة اعتبارية رفيعة في الأوساط العالمية شرقاً وغرباً، رغم ارتباطها الأيديولوجي بالمنظومة الاشتراكية العالمية، وكانت عملتها ساطعة الحضور في سلة العملات العالمية الصعبة، ووثائقها الصادرة من أصغر مكتب في أقصى محافظة ومديرية، تنال تقدير واعتراف العالم برمته، ولم تكن تتوسّل القروض والمساعدات التي تحولت إلى مسبّة تلاحق اليمنيين.
دولة اليمن الديمقراطية التي اعتبرت الوحدة قدس أقداس المشروع الوطني والشعار المركزي لها، حررت المُهمشين من سُبات غفلتهم وجهالتهم، ليصبحوا مواطنين يلتحقون بركب الكرامة الذاتية، والعطاء المثابر، فكان منهم المهندسون والإداريون والاعلاميون، وقضت تلك الدولة العلامة، على الفوارق الطبقية الجائرة، فتأنْسن الوجود بالاكتفاء، وغاب التسول والمرضى الحائرون، وأثبت اليمانيون أنهم قادرون على فعل الكثير الكثير متى ما ارتبط الأمر برؤية سياسية لصالح الجماهير. وبغض النظر عن الشعارات والعناوين، فالحكيم الصيني "دينغ سياو بنغ" قال يوماً: "ليس مُهماً ما لون الهرَّة، بل المُهم أن تُجيد اصطياد الفئران".
وبمواجهة ثقافة التسوّل واليد الصُغرى الممدودة دوماً، يقول الصيني الحكيم: "لا تعطني سمكة، بل علّمني كيف أصطادها"، والشاهد أن اليمن ليس بحاجة لا إلى سمكة، ولا إلى من يعلم شعبها كيف يصطاد السمك.
اليوم يواجه المؤتمر الشعبي سؤالاً مُشابهاً لذاك الذي واجهه الاشتراكي بُعيد الوحدة، مع فارق جوهري هو أن الاشتراكي لو كان خرج من السلطة للمعارضة، لكان خرج دون المقدمات الوافرة اليوم، والعكس صحيح بالنسبة للمؤتمر الشعبي العام، الذي بوسعه التطهر من أرجاس السلطة الفاسدة المفسدة، ليكون عنصراً فاعلاًً في بناء وطن جديد يتخلّى عن السيئات ويُبقي على الحسنات.. تماماً كما كنا نحلم ذات لحظة تاريخية، عندما تمنّى الجميع التخلّي عن سيئات النظامين السابقين على الوحدة، والإبقاء على حسناتهما.. لكن ذلك تحول إلى تعميم قسري لنظام "الجمهورية العربية اليمنية"، بل زاد عليه، بالتخلّي المنهجي عن حسناته السابقة على الوحدة.
وفي المقابل، أرى أن على اللقاء المشترك أن يوسع قواعد المشاركة السياسية، وأن يفتح خط حوار لا ينقطع مع جيل الشباب، والجماهير الغفيرة من أبناء الشعب القابضين على جمر القضية المشروعة، مُطالبين عن حق بالتغيير الملموس، وتحويل الأقوال إلى أفعال، واعتماد مرئيات ثورة التغيير السلمية، بوصفها البرنامج السياسي الأشمل الذي يتحلّق حوله الجميع، ويتّسع للجميع.
ليس من خيار أمام شرفاء الوطن وحكماء اليمن، سوى تدشين عهد جديد، بملامح ومواصفات مغايرة جذرياً لما شهدته البلاد طوال متاهات الغِنى الفاجر والفقر الأسود. وليس عيباً أن يكون البعض قد انخرط في خطيئة التداعي الحر مع المفاسد، ولكن الخطأ كل الخطأ هو البقاء في مربع المياه الآسنة، التي آن الأوان لردمها، انتصاراً للمستقبل والحكمة اليمانية التي أخرجت البلاد والعباد مما هو أسوأ.
الأيام المقبلة حُبلى بالانتصارات المؤكدة، وأمام الجميع فرصة تاريخية لتحويل التراجيديا الماثلة إلى نصر مؤزر، ضد الذات قبل الآخر، وضد البؤس قبل الخصم.
× نقلاً عن البيان الإماراتية