أيها الثوار الأحرار أيتها الثائرات الحرائر: إن الأرواح مثلها مثل الأبدان تحتاج إلى قوت يقويها، وغذاء يغذيها، بين فترة وفترة قريبة، فإذا تباعدت أوقات التغذية ضعف القلب، ذكر ابن الجوزي في المدهش عن فتح الموصلي قوله: أليس المريض إذا منع من الطعام، والشراب، والدواء، يموت؟ قيل له: بلى.. قال: فكذلك القلب، إذا منع عنه العلم والحكمة ثلاثة أيام يموت.
إن غذاء القلب يأتي على جهة الاستمرار ليكون منه النفع، فإذا طالت المدة بين العبادات والأفعال وتلقي العلم والعمل به، أوشكت القلوب أن تقسو، ويخاف عليها من الران، وغلبة الأمراض، من هنا فإن الوقت قتال، وكلما علت رتبت الإنسان إيمانيا كلما كانت حساسية قلبه للوقت أشد، وحاجته إلى مداومة الطاعة والذكر أشد.. فإذا غفل وأذنب تدنى من المرتبة رويداً رويداً حتى يصاب بالهلاك، ففي صحيح ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة، فإن هو نزع، واستغفر، وتاب صقلت، فإن عاد زيد فيها، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو فيه، فهو الران الذي ذكر الله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (14) سورة المطففين.
أيها الثوار الأحرار أيتها الثائرات الحرائر: إن طول الأمد يجعل الإيمان يخلق في القلوب فتخفت المعاني الإيمانية في النفوس، وتلهو القلوب مصابة بداء الغفلة، قال الله تعالى: {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} (3) سورة الأنبياء.
وتتطلع الأنفس لغير الله فتهتف كما هتفت بنو إسرائيل في فتنة قارون، قال الله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (79) سورة القصص.. وتمتد الأنظار إلى زهرة الحياة الدنيا، قال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (131) سورة طـه وتتضخم الذات فترى نفسها وتزكي نفسها، قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} (18) سورة المائدة.
وتيبس القلوب فتصبح مثل الأحجار كما حدث مع اليهود قال الله تعالى عن اليهود: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } (74) سورة البقرة.. فإذا قست القلوب استحقت الويل، قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (22) سورة الزمر.
أيها الثوار الأحرار أيتها الثائرات الحرائر: إذا طال الأمد على الإنسان فرداً أو جماعة استطال الطريق، وضعفت خطاه على الطريق، وداخله الجبن فلم يبذل النفس، فكان الاستبدال قال الله تعالى: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (39) سورة التوبة. ويكون البخل بالمال، فيكون الاستبدال، قال الله تعالى: {هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (38) سورة محمد.
إن طول الأمد يفسد القلب فتصيبه القسوة، والقلب محل نظر القلب، وبصلاحه صلاح بقية الأعضاء، وبفساده فساد جميع الأعضاء، من هنا تظهر خطورة طول الأمد القسوة المفضية إلى الفسوق، حيث تتصلب القلوب فتنقطع بها السبل في متاهات الدنيا، وآمال حطامها الزائل، وتنسى ذكر الله تعالى، فلا تأمر بمعروف ولا تنهى عن المنكر ولا تنصر حقاً ولا تقاوم باطلاً ولا تنصر مظلوماً ولا تكف يد ظالم، ويحدث لها ما حدث لمن قبلنا من الأمم حين تركوا كتاب الله وراءهم ظهريا، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، فاتبعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله عز وجل.
قال الشوكاني: {فطال عليهم الأمد} أي طال عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم، وقال محمد بن كعب: كان الصحابة بمكة مجدبين، فلما هاجروا أصابوا الترف والنعمة، ففتروا عما كانوا فيه، فقست قلوبهم، فوعظهم الله، فأفاقوا.
قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: إنهم نسوا ما أوصوا به فخالفوا أحكام شرائعهم، ولم يخافوا عقاب الله {يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا} فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً، وصار ديدنا لهم رويداً رويداً، حتى رضوا بذلك، فقست قلوبهم؛ أي: تمردت على الاجتراء على تغيير أحكام الدين.. والمعنى: أن كثيرا منهم تجاوزوا ذلك الحد من قسوة القلوب، فنبذوا دينهم، وبدلوا كتابهم، وحروفه، وأفسدوا عقائدهم، فبلغوا حد الكفر.
قال السعدي: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ} أي: ولا يكونوا كالذين أنزل الله عليهم الكتاب الموجب لخشوع القلب، والانقياد التام، ثم لم يدوموا عليه، ولا ثبتوا، بل طال عليهم الزمان، واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم، وزال إيقانهم، {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} فالقلوب تحتاج في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزله الله، وتناطق بالحكمة، ولا ينبغي الغفلة عن ذلك، فإن ذلك سبب لقسوة القلب، وجمود العين.. قال في تفسير المنار: ولهذا كان تعالى يرسل الرسل بعضهم في أثر بعض حتى لا يطول أمد الإنذار على الناس فيفسقوا ويضلوا.