إننا لا نشهد هنا لتعز، فهي بالتأكيد لا تحتاج عبر تاريخها الحافل بالنضال الوطني لمن يشهد لها، لأنها أبعد ما تكون عن ممارسة النزعة الطائفية والمناطقية، ليس ذلك فحسب، وإنما لكون تعز عاصمة اليمن بين عامي 48 ـ 62 م و هي بلا شك الداعم الحقيقي للمشروع الوطني من أجل بناء يمن قوي وقادر على صناعة مستقبل أفضل لكل المواطنين اليمنيين، لأن اليمن ـ تعز كحقيقة لا خلاف عليها.
وذلك لما تتمتع به من مزايا إيجابية كالتوسط والاعتدال في الفكر والثقافة وهو ما يجعل موقع تعز ليس قلب الجغرافيا الطبيعية للوطن الكبير فحسب، وإنما هذه هي الحقيقة التي لا مجال لإنكارها، وهي أن تعز الجغرافيا التي لم تحتار ولم يتردد معها التاريخ في اختيارها قلب اليمن النابض بالحيوية والتجدد.
ولما كانت تعز كذلك فإنها لا تلتقي مع المشاريع الصغيرة، كونها بريئة من أي دعوى مناطقية أو نزعة طائفية، لأنها مدينة بحجم الوطن الممتد من المهرة إلى صعدة.
وما كان ذلك القول عن تعز حديثاً يفترى ولكنه تصديق للحقيقة الواضحة وتجسيد لمعنى تلك المدينة بوصفها (مقبضة اليمن) وعاصمة الثقافة الوطنية ومصدر انبعاث الحركة السياسية اليمنية.
الحديث عن تعز له أبعاد مختلفة وذو شجون متعددة، لأننا عندما نتحدث عن تعز، فإنما نتحدث عن الحب والجمال والأرض والإنسان والثورة والتغيير، لأن تعز في ارتباطها بالوطن صوت القلب، وصدى الوجدان، ولا شك بأنها أداة الحركة الوطنية وأساس المشروع التنويري بشقيه السياسي والثقافي، لذلك استحقت تعز أن تكون عن جدارة رافعة المشروع الوطني الذي إذا انتصر ـ كما حدث ذلك في عهد الشهيد الحمدي ـ انتصرت اليمن كلها، أما إذا هزم ذلك المشروع الوطني أو تم وأده، هزمت تعز بمفردها، لأنها شاهد عيان على عصر يمني مضطرب.
وإذا كان ذلك المشروع الوطني قد تعرض لانتكاسة حقيقية جراء هيمنة الفساد المستشري في الحياة السياسية دونما استثناء للسلطة أو المعارضة من ذلك الفساد المالي والإداري، فإن تعز كانت ولازالت وستظل وفية لانتمائها الوطني، ولن تتخلى عن وظيفتها الأساسية في اليقظة الثورية، وإنما تبوأت تعز ذلك لإيمانها بقيم الثورة مركز الصدارة في قيادة هذه المسيرة الثورية الجديدة نحو بناء اليمن الجديد، يمن المستقبل.
إنه وبقدر ما كان لتعز بحكم مكانتها المتميزة من دور ملموس ومحسوس في ثورة سبتمبر وأكتوبر، فقد كان لها النصيب الأكبر أيضاً في إيقاظ تلك الروح الثورية الجديدة التي انطلقت في 11 فبراير، نحو يمن الغد والمستقبل.
وبالتالي كان من الطبيعي أن تتعرض تعز للحصار الأكبر والقمع الوحشي، ويصب النظام الحاقد جام غضبه وغيضه وحقده على تعز، بل وألحق بها أذى كبيراً، لكنها لن تستكين أو تخضع كما خضع بعض أبنائها ومارسوا العقوق بحقها.. إن تعز وهي تئن تحت وقع القصف البربري والحصار المغولي من قبل مليشيات صالح، وتهتف للثورة وتسقي شجرتها الوارفة بدماء أبنائها وثائراتها ـ وسع الحاقدون على تعز من نطاق الحرب على هذه المدينة الحالمة، فدمروا كل شيء جميل فيها، في محاولة يائسة منهم ومن زعمهم إيقاف قلب الثورة اليمنية، ومركزها المشع، واحتواء مقاومتها للظلم والطغيان والفساد، لكن تعز ظلت حاضنة التاريخ والجغرافيا والفكر والثقافة، رغم حقد الحاقدين وتآمر المتآمرين.
تعز.. تشكو ما يمارسه بعض أبناءها أو المحسوبين عليها من عقوق بحقها وتمترسهم خلف أطراف لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، ضد إخوانهم العزل في الحالمة تعز، يمارسون ذلك دونما وعي أو إدراك أن المليشيات الرسمية المسلحة هي التي تجوب شوارع مدينة تعز، ليس منذ اندلاع ثورة فبراير فحسب، وإنما منذ عقود من الزمن وتعز تعاني من تلك المليشيات الرسمية، التي ظهرت اليوم أكثر عنفاً وقتلاً وتنكيلاً بسكان المدينة المسالمة، وذلك بكل ما تملكه تلك المليشيات التي لا أستطيع وصفها بجيش أو قوات محسوبة على اليمن واليمنيين دبابات ومدافع وصواريخ ورشاشات توغل قتلاً ونهباً وتدميرا بحق مدينة تعز وسكانها، وأمام مشاهد القتل والدمار البربري الذي تمارسه مليشيات النظام، لم يملك أحرار وثوار تعز إلا أن يلملموا جراحاتهم وآهاتهم بعد أن خذلهم العالم ويجمعونا كلمتهم التي لا تبدو أنها قد توحدت بسبب بعض أبناء تعز المارقين، وذلك للدفاع عن أنفسهم وأعراضهم وكرامتهم ومواجهة الرعب المسلح لعصابة صالح الدموية بكل ما يملكون.
وهنا كان لابد من أن نطرح سؤالاً على أولئك الناعقين المطالبين بفرض هيبة الدولة ونقول: عن أي سلطات تنفيذية يتحدث أولئك المارقون وهم يعلمون في ذوات أنفسهم أن تعز يهمها بناء الدولة وفقاً لأسس وطنية سليمة أكثر مما يهم الآخرون، لأنها تضررت كثيراً من عصابة مسلحة تتقمص مفهوم الدولة رغم أن تلك العصابة الرسمية المسلحة، ما كان لها لتبطش بالمواطنين في تعز إلا عندما غابت دولة النظام والقانون والعدل والمساواة.. فهل قيران الذي لا يتقن سوى الولوغ في الدماء يمثل الدولة في تعز حتى يتكلم فكري قيران عن الدولة، وكأنها في وعيه صورة القاتل العوبلي؟ وهل هناك قائد عسكري يستشعر تحمل مسؤولياته أمام الله والوطن يوجه بقتل المواطنين والنساء والأطفال؟.
إن أسوأ ما كشفت عنه تلك الحرب العدوانية التي تشن منذ فترة طويلة على أبناء مدينة تعز الصامدة، هو بروز قلة مارقة تمارس جلد ذاتها عمداً وتنال بأقلامها المأجورة من شموخ المدينة وصمودها الاستثنائي أمام آلة القتل الوحشية البربرية التي تنهش في أجساد أبناء تعز، حتى أن مآذنها باتت تعانق مآذن غزة والفلوجة، وتناسى أولئك المارقون الذين ينتقدون أنصار الثورة في تعز الذين خرجوا لحمايتهم وحماية كرامتهم، من خلال ما يدبجون ويسطرون من إساءات ضد أبناءه هذه المحافظة المنكوبة، من أمثال فكري والصوفي واليوسفي وغيرهم، تناسى هؤلاء أنهم في عقلية وتفكير وشرع العصابة الرسمية، ليسوا مجرد مواطنين غير معترف بهم فقط وإنما مجرد( براغلة) لأنهم من تعز، فهم كذلك في توصيف تلك العصابة الرسمية، وكان الأحرى بهم أن يكفوا عن تزوير واقعهم المرير ويتركوا أقلامهم ويحملوا بنادقهم ويلتحقوا بأنصار الثورة للدفاع عن نساء وأطفال وشيوخ المدينة المنكوبة، بدلاً من أن يوجّهوا اللوم إليهم، لأن قيران والعوبلي وضبعان "ثلاثي الشر" وغيرهم من الدمُى التي لفظها شعبنا اليمني، أقل كفاءة من أولئك الثلاثة المخلفين وأمثالهم عن المسيرة الثورية في تعز.
وإن كان لا فرق بين الطرفين إلا بغياب حقيقة المواطنة المتساوية والتي أدت إلى اختلال الموازين وجعلت من كُتّاب يُفترض بهم الدفاع عن الحق والعدل والوقوف إلى جانبهما، كتاباً للدفاع عن الباطل والظلم والقتلة والمجرمين، وكان حري بهم أن يدركوا أن من خرج بالدبابات والمصفحات والمدرعات والمدفعية هم ممثلو عصابة الشر والإثم، ممن استباحوا المدينة الوادعة، وليس أنصار الثورة هم من فعل ذلك وحوّل المستشفيات والمدارس إلى ثكنات تبعث القتل للمارين والساكنين، وترسل الموت ليحصد أرواح الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ والشباب.
وعندما يتساءل البعض لماذا تعز؟ هل نسيى هؤلاء أن هناك محافظات سقطت بكاملها ولم يتعرض أبناؤها للقصف والقتل والتنكيل كتعز؟، فصعدة لم تعد اليوم ضمن الجمهورية اليمنية إلا شكلاً، ومثلها الجوف ومأرب وأبين، أما تعز فستظل ضمن اليمن وقلبها النابض بالحب والسلام، فلماذا نزايد على بعضنا ونحاول تحسين صورة القبح وتجميله على حساب الحقيقة التي تؤكد أن ما تتعرض له تعز لم يكن إلا تعبيراً عن حقد أسود ينفثه النظام المتهالك تجاه المحافظة وأبنائها؟ وقد ساعده على ذلك وللأسف بعض أبناءها، في وقت تتعرض فيه لحرب منظمة تشكل في نتائجها المدمرة على أرض الواقع استمراراً لسياسة تغييب وتهميش تلك المحافظة برغم أهميتها، فهي نصف الثقافة في اليمن ما لم تكن كلها، وكذلك حركة النشاط التجاري، ولها دورها الفاعل في الحراك الديمقراطي، وكأنما تعز بذلك التغييب والتهميش الذي طال وزاد أمده تدفع ثمن انحيازها للثورة السلمية وتصدرها لها، ودعمها ومؤازرتها لحركة التغيير.
وبالتالي فإن عسكرة مدينة تعز ليست وليدة اليوم كما يزعم أولئك المتمنطقون ولا من صنيعة أبنائها، بل هي عسكرة قديمة ومتعمدة، وهي بالتأكيد تمثل مشكلة سابقة على التطورات الجارية في ساحة العمل الوطني وتلك المشكلة كانت قبل بدء المسيرات الشعبية، فالمعسكرات الرسمية تحيط بتعز من جميع الجهات ويؤكد ذلك ما كانت تقوم به ولا تزال تلك المعسكرات من قبل اندلاع الاحتجاجات من أعمال تتنافى مع استتباب الأمن والاستقرار في تلك المدينة الهادئة والمسالمة. لذلك آن الآوان لحكومة الوفاق الوطني أن تسحب القوات العسكرية من داخل المدينة وخارجها وتمنع الأعمال المخلة بالدستور والقانون، كشرط ضروري لعودة الأمن والاستقرار لمحافظة تعز، وتجنيبها أي صراع بالوكالة مهما كان شكله أو نوعه، وأما من يريد أن يجعل من تعز مسرحاً لتمرير مخططاته الدموية والإجرامية نقول له: إن أبناء تعز يقظون ومستيقظون ولن يسمحوا لكائن من كان أن ينال من كرامتهم أو يشوه مدينتهم، وستظل تعز مصدر الثورة وقائد مسيرتها ووهجها المشع، وليمت الحاقدون بغيظهم.