إذا كان توقيع المبادرة الخليجية من قبل الرئيس/ علي عبدالله صالح، تمّ بعد مخاض طويل وعسر شديد ومناورات سياسية، فإن مرحلة ما بعد التوقيع لن تكون أقل عسراًً، والشاهد ما صرح به صالح في الرياض من أن توقيعه على المبادرة يعتبر انقلاباً على الشرعية الدستورية، ثم ذهابه المباشر إلى اليمن بحجة الإشراف على تطبيقها! بعد أن كان أبلغ الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، بأنه ذاهب إلى نيويورك لمواصلة العلاج، فأحرج أرفع موظف دولي، وبدا بان كي مون كما لو أنه شاهد زور، تالياً أطلق صالح تصريحاً حول العفو العام، وهو أمر ينطوي على استباق إجرائي لأي محاكمات قادمة، ربما تستهدف الذين كانوا وراء قتل المعتصمين في ساحات التغيير.
تجري هذه السيناريوهات في ظل شرعية جديدة تطل برأسها، ممثلة في نائب الرئيس عبد ربه منصور هادي، المدعوم بدستور الجمهورية اليمنية والمبادرة الخليجية، بالإضافة إلى التفويض الناجز من قبل صالح ذاته.
وخلال الأيام الماضية أصدر هادي مرسومين جوهريين، أحدهما يتعلق بتحديد موعد الانتخابات الرئاسية في 21 فبراير المقبل.. ذلك الموعد الذي يزحف رويداً رويداً، ليكون محطة انعطافة جوهرية في معادلة نقل السلطة.
والمرسوم الثاني يتعلق بتكليف محمد سالم باسندوة ـ مرشح المعارضة اليمنية لرئاسة الحكومة ـ ليقدم تشكيلته الوزارية التوافقية خلال أسبوع من تاريخه. وقد لاحظ المراقبون التوافقية الذكية لأحزاب اللقاء المشترك، حول المرشح لرئاسة الحكومة الذي خرج مبكراً على صالح رفضاً لمنطق إدارته للبلاد، والمعروف أيضاً بخبرته السياسية المديدة، وتجربته في تولي العديد من الوزارات، بالإضافة إلى أنه من القلائل المخضرمين ممن عاشوا التجربة السياسية اليمنية في الشطرين، منذ ستينات القرن العشرين.
أحسنت المعارضة اليمنية صنعاً بهذا الترشيح، لأنها تجاوزت الخطوط الحزبية الأيديولوجية التقليدية، لتعانق الأفق الوطني العام المُخرْسن بالخبرة والدراية، وفي المقابل سار نائب الرئيس المفوض بصلاحيات الرئاسة ومرئيات المبادرة، على درب إصدار المرسومين اللذين سيلحقهما المرسوم الثالث المتعلق باللجنة العسكرية العليا التي سيترأسها النائب ذاته، والتي ستكون معنية بأهم وأخطر ملف يتعلق بالترتيبات العسكرية الأمنية.
وبما يضمن إعادة هيكلة المؤسستين العسكرية والأمنية، عبر الاستبعاد الإجرائي للمصفوفة القبلية العشائرية العائلية، التي كانت سبباً أساسياً في التصادم غير الحميد بين فرقاء الساحة اليمنية، فالوراثة التي أطلت برأسها منذ تشكيل الحرس الجمهوري كمواز للجيش الوطني، واستكمالها بتفريع أجهزة الأمن ليتموْضع في قلب قيادتها أقارب الرئيس الأقربين.
تلك المقدمات كانت سبباً جوهرياً للخلاف الكبير بين صالح وأقرب حلفائه السابقين، وبدت تلك الإرهاصات كما لو أنها المرجل الذي اعتلى بالسخونة، ليكتمل مشهد الرفض الشعبي العارم للنظام بثورة الشباب السلمية السائرة نحو درب الظفر المؤكد، استناداً إلى مشروعيتها وتوقها المستحق لمجتمع يماني ألفي فاضل، يتجاوز سيئات العقود الماضية.
يمكن اختصار المشهد القائم في مسارين متوازيين ومتضافرين، يتمثل الأول في المسار السياسي الممهور بالدستور والمبادرة الخليجية، وتكليف صالح لنائبه في ما يمكن تسميته بشرعنة الشرعية الدستورية التوافقية الجديدة، وهي شرعية تمنح النائب صلاحيات الرئيس، وتقبل به رئيساً توافقياً بين السلطة والمعارضة لعامين قادمين، وذلك بعد انقضاء مهلة التسعين يوماً المكرسة لعتبات الانطلاق نحو الانتقال السلمي للسلطة.. هذا المسار السياسي لن يسير دون عوائق وشوشرة.
كما نلاحظ الآن من خلال الأداء الإعلامي الرسمي الذي يتأبّى على مرئيات المبادرة والتوافق الدولي والإقليمي، رافضاً الانزياح إلى مستوى الأداء الجديد، مقيماً في مرابع ماضيه البائس. وإلى ذلك تمثل الهجمات المسعورة المتفلتة ضد مدينة تعز، رفضاً مبطناً للمبادرة ونتائجها، مما لا يخفى على أي لبيب.
وهنالك مسار الثورة السلمية الشعبية التي تتزايد نماءً وزخماً، في تأكيد آخر على أن التعبئة السياسية التوافقية، لا معنى لها إلا بتحقيق كافة المطالب المشروعة لجماهير الشعب اليمني، الباحث عن خلاص من ربقة الفقر والإحباطات والظلم والفساد. ويستوعب فرقاء المعارضة، وحتى من بقي من عقلاء السلطة، هذه المطالب المشروعة، بل يسعون جاهدين إلى تحقيقها بأيسر السبل، وبما يمكن من تلافي المزيد من الانسدادات السياسية، انتصاراً لحكمة التغيير بالتفاهم بدلاً من التقاتل.
يقيني أن بعض المتمنطقين بنياشين القوة العسكرية والمال المنهوب، ما زالوا يعتقدون أن بوسعهم إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، وما زالت سلوكاتهم القاصرة تضعهم تحت ظلال الدبابات والدروع وراجمات الصواريخ، متناسين أن أشهراً طوالاً من فرط استخدام القوة ضد المعتصمين والمتظاهرين، أسفرت عن نتائج مغايرة تماماً لما خططوا له، فالساحات ازدادت زخماً وألقاً رسالياً صافياً ومترعاً بالطهارة واليقين الإيماني بغد مشرق سعيد، والأطياف المجتمعية بصنوف مرجعياتها توحّدت عند حد الإمساك بالحقيقة الجوهرية، والحملات العسكرية التي شُنت على أرحب ونهم وتعز عادت خائبة، وسيناريوهات صعدة وأبين أسفرت عن إدانة مؤكدة للنظام الذي كان سبباً في استزراع وتغذية المنازع التطرفية الدينية السياسية في المنطقتين، وكادت تفقد الدولة وجودها العملي في مناطق واسعة من البلاد، لولا حكمة المواطنين وجهود الشرفاء التي ما زالت المانع للفوضى الشاملة التي يريدها طرف بذاته في النظام، تأسياً بالمقولة النيرونية "أنا ومن بعدي الطوفان".
على مسار الحالة الثورية الشعبية والتسوية السياسية المقبولة، افترض أن بعض عرّابي الموت المجاني يخططون في الغرف المظلمة سيناريوهات إجرامية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، احتمال تدوير اغتيالات سياسية، وسيكون التبرير جاهزاً كما كان بعيد وحدة 1990 التي برر فيها النظام اغتيال رموز الحزب الاشتراكي اليمني، بوصفها انتقامات متبادلة بين الخصوم في الحزب..
هكذا وبكل بساطة! وعلى خط متصل سيحاول بعض أطراف النظام عرقلة تنفيذ المبادرة الخليجية، باصطناع السيناريوهات المعرقلة، وأبرزها محاولة خلط الأوراق، من خلال دعم المشاريع الانفصالية الصغيرة في المناطق المؤهلة لذلك، وكأن النظام بهذا الفعل يتوّج رعايته الكريمة لتلك المشاريع على مدى العقود الماضية.
وأخيراً، وبعد هذه الافتراضات التي نتمنّى أن لا تكون صائبة، نصل إلى خلاصة الخلاصة في المشهد المقبل، ونلخصه في ما يلي: إما السقوط الحر للنظام من خلال تنفيذ آليات المبادرة الخليجية، استجابة منه واعترافاً بقانون التاريخ، وإما السقوط بالضربة القاضية من خلال عمل عسكري مؤكد يمثل فيه الجيش المنشق من النظام رأس الحربة، فيما تمثل الجماهير المليونية الهادرة روافد تغذية ميدانية للمناجزة العسكرية، التي طالما بحث عنها النظام وهو لا يدرك أنها ستقضي عليه، لسبب بسيط يتمثل في شرعية المطالب الشعبية، التي نالت وسام استحقاقها المستقبلي من خلال تضحيات الأشهر التسعة الماضية.
نقلاً عن البيان الإماراتية