تتزاحم ضربات المخاض الأخير كسوطٍ يعزف على ظهر باغية وحتى الموت وصلت أناتها وهي تحلق في سماء الزفرات تلفظ أنفاسها كرصاصات تغادر فوهة بندقية.. كثيراً تساءلتُ هل تتجمد النيران وتلتهب ألسنة الجليد؟!.. هل تصبح القبور نوافذاً وأبواباً، هل ترضع الوحوش فرائسها؟! هل تتثاءبُ السحابُ وتبكي الغيومُ وتنام الوديان كما ننام؟! لماذا تُصعقُ المفردات وتنهار الحروف حين نقول الحقيقة؟! هل أصبح الحق نبتةً متسلقةً على جدارٍ عتيقٍ يحملُ التاريخ ضخرةٌ صخرة؟! لا أصدق أن من كان يحمل الأسفار في صدره ومواويل المترهبين بين شفتيه وهياكل المبكى بين يديه هو من يعرف اليوم أوراق الياسمين ويلطخ الهواء برماد الثائرين ويصلي لأجل الأرض صلاة الكاذبين، لا أصدق أن أجنحة المنازل لم يعد يغطيها الحب وسوق المدائن عاريةً وسواعد الشرفات مخضبةٌ بالحنين، أين هم أولئك الأعرابُ من صحراتهم؟! هل ماتت العيس ضمأ وارتدت الرمال وشاح الحزن كما تفعل الأرامل في ذكرى اللاعودة؟، هل أصبحت مآذن الشرق وقباب الجنوب أطباق عيد على مائدة السلطان؟! أين صوت العود الذي كان يدغدغ براعم الريحان والنرجس، فتتمايل باتجاه الريح كما تفعل النساء حين يترنحن في اتجاه البوح ساعة ا لعتمة!..
لا لستٌ ممن يوصد أبواب الكتاب بقافيةٍ ولا ممن يقص شريط المساء بأمنيةٍ ولا ممن يسفك دمهُ الأبيض بقرعة طبلٍ أخرق، لا أجيدُ العزف على أوتار شراييني ولا أرقص كأفعى حتى تبتل عروقي بالسُم ولا أهوى الوقوف كسارية في ساحة حرب.. أنا أبحث عن أجنحة تحملني على سطح موجةٍ وتسقيني قطرات المطر، أبحثُ عن شرنقةٍ أُواري خلف جدرانها أعمق آهاتي واستظل بزواياها وأنا أهربُ من ذاتي، حطمتني هذه النيرانُ من حولي، قتلت فيَّ مواهب الحب والشجن، اغلقت منافذ البوح وأطفأت شمعة الروحة فيَّ وحملتني أطناناً من الخوف وساقتني أمامها كأسيرة حرب إلى منفى الملوك!.. أبحث عن فكرةٍ لا تسرق طموحي، كلمةٍ لا تكسر جموحي، أبحث عن ورقة توت لا تخفى محاسني وتظهر أسوأ ما فيني، عن شجرة لا تثمر أغصانها غصاتٍ تؤذيني، أبحثُ عني فيني.. ثم لا ألقاني.. لا ألقاني.. أصبحت أمسيةً يتيمةً بلا قمر، قلبي أضحى بندقية، شعري سلاسل من حديد ويداي ما عادتا تطيق الحبس، أين نامت حريتي، أين تاهت إنسانيتي، هل أضعت الطريق إلى روحي أم أنني بلا روح خلقت؟! أنا أبحث عن بيتٍ من الطين وكوخ من قصب الحقول وعتباتٍ من القش وفراشٍ دفئٍ من العشب، أنا أبحثُ عن مفاتيح الحياة التي أوصدت أبوابها في وجهي هذه العاصفة، انتظر الموت كل يوم قبل أن تشرق نيران المدفعية، أنا أبحث عن أجراس القيامة التي قامت على راحتي وأنا أكتبُ وأنثر قصائدي وأتلاعب بقافية المعاني، قيامةٌ بعثت حروفي عاريةً كيوم ولدت على أوراقي ولم تبعث الروح التي أسكنت هتافاتي.. أنا أبحث عن سفنٍ مالها ربان، بحٌر ليس له شطآن، أبحث في داخلي عن إنسان ليس بإنسان! لازال ذلك السوط يترنم، لازال يخط على ظهرها أسطر الذل والألم، لازال يوظف أصابع الجلاد لينكأ في داخلي شهية الموت.. فأموت أموت حيناً من الدهر بين دفتي وطني.. هذا الذي حال بيني وبينهُ موكب السلطان وحاشية الخُذلان والحاجب النائم على عصا الفرسان.. ليتهُ لم يطأ دواويني ولم يتكئ بعصاه الخشبية على ساندي ولم يجتر أنفاسه بين يدي كعجوزٍ ناهز عمر الحياة بأكمله.. ليته بقى كما بقيت في رحم شرنقتي وإن لم يصبح لي أجنحة.
ألطاف الأهدل
في رحم شرنقة 2224