أخيراً وقع الرئيس/ علي عبدالله صالح على وثيقة تخليه عن السلطة وهو بذلك سجل براءة أسلوب جديد في ترك السلطة في ظل أجواء الربيع العربي العاصفة... اختار الرئيس صالح طريقة جديدة غير طريقة فرار زين العابدين بن علي وتنحي حسني مبارك وحرب معمر القذافي، فالتخلي عن السلطة باحتفال إقليمي ودولي هو أسلوب جديد يعكس الرضوخ للإرادة الشعبية ومحاولة إرضاء المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي... لم تأت هذه اللحظة التاريخية بسهولة، ففي الساعة السادسة وسبعة وخمسين دقيقة (بتوقيت مكة المكرمة) مساء يوم الأربعاء 23 نوفمبر 2011م وقع الرئيس/ علي عبدالله صالح على وثيقة تنحيه عن السلطة بعد مماطلات دامت سبعة شهور تقريباً منذ أن خط بنفسه أول بنودها ثم تشاور مع سفير الولايات المتحدة الأمريكية بشأنها ومن ثم ألقاها بدوره للسفراء الخليجيين بصنعاء لتتبلور كمبادرة باسم دول مجلس التعاون الخليجي... كان الرئيس صالح يعتقد جازماً أن أحزاب المعارضة سترفض المبادرة فيصبح من حقه ضرب ساحات الثورة وإخلائها بالقوة، لكن الأحزاب وافقت فأسقط في يده وبدأ رحلة المناورات واختلاق أسباب عدم التوقيع حتى كان يوم التصرف الجارح للخليج والغرب في 22 مايو الماضي عندما قام بلاطجته بحصار سفارة الإمارات، فارتكب واحداً من أفدح أخطائه الدبلوماسية التي بررت للمحيط الإقليمي والمجتمع الدولي رفع الغطاء كلياً عن نظامه... ولولا محاولة اغتياله في حادث تفجير جامع الرئاسة الإجرامي الذي أصيب فيه والذي مد في عمر نظامه لكانت صفحته قد طويت قبل عدة شهور.
شئنا أم أبينا سيسجل التاريخ للرئيس/ علي عبدالله صالح في النهاية أنه بتوقيعه على المبادرة الخليجية قد اختار طريق السلامة – وهذه محسوبة له – في إنهاء فترة حكمه بعد محاولات حثيثة لم يكتب لها النجاح في إنهاء الثورة الشبابية بقوة السلاح وبالقتل والترهيب واستخدام كل وسائل التضييق على حياة الناس دون جدوى، فقد صمدت الثورة وضحى الشباب بمئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعوقين ودفع نظام صالح بجنوده في مواجهات خاسرة في مدينتي صنعاء وتعز ومناطق أرحب ونهم وبني الحارث، فأدت هذه المواجهات إلى مقتل مئات الجنود والضباط والعشرات من أبناء مناطق المواجهات دون أن تتمكن قوات الجيش من التقدم فيها شبراً واحداً حتى آخر يوم قبل توقيعه الوثيقة... طوال كل تلك المدة ظلت إرادة شباب اليمن قوية لم تتزعزع ومع المزيد من التضحيات والصمود كان زخم ثورتهم يزداد شعبياً، فيما النظام يخسر كل يوم المزيد من أنصاره ومؤيديه... وإلى جانب ذلك أخذ الضغط الإقليمي والدولي يتنامى إلى أن وصل إلى لحظة اللاعودة وتخلى عن لغة المداراة وبدأ التهديد الجدي بإحالة ملفه للمحكمة الجنائية الدولية وتجميد الأرصدة وحظر السفر على القيادات... وأمام كل ذلك وكل تلك التطورات الداخلية والخارجية كان لابد أن يعيد الرئيس صالح التفكير العقلاني بعيداً عن طيش وتهور بعض أفراد عائلته وكيد وأنانية بعض الساسة المحيطين به... وفي لحظة صفاء كما يبدو استمع لصوت العقل وقرر إنقاذ ما تبقى من تاريخه بعد أن تلطخ بالدماء خلال الشهور العشرة الماضية... ومما يؤكد أن قراره بالتنحي هو قرار نهائي – كما يؤكد المنطق وشواهد الفعل السياسي – أنه قرر التوقيع بنفسه على المبادرة الخليجية، وأنه طلب التوقيع عليها في احتفال مشهود إقليمياً ودولياً بحضور العاهل السعودي الملك/ عبدالله بن عبدالعزيز، وأنه قرر البقاء في الخارج – كما تؤكد مصادر مقربة – بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال علاجه... هذه المؤشرات الثلاث لا توحي إلا بالجدية في التنحي رغم كل الألغام التي خلفها وراءه قبل سفره والتي ستحتاج لجهود كبيرة ووئام وطني لاقتلاعها ونزعها.
هناك أمور من المهم التوقف عندها ونحن نستقرئ ما بعد التوقيع التاريخي على التنحي، فالمؤكد أن غالبية أبناء الشعب اليمني شعروا بالفرحة والسعادة والاطمئنان بسبب توقيع الرئيس صالح للمبادرة الخليجية... أحس اليمنيون (الموالون للحاكم والموالون للمعارضة والصامتون) بأنهم قطعوا الخطوة الأولى في الخروج من محنة صعبة، خاصة الذين انعكست على أوضاعهم المعيشية سلباً وهم الأكثرية... وأمر مؤكد آخر هو أن الشباب انتصروا بثورتهم السلمية التي أذهلت العالم بزخمها وقوتها وصمودها في بلد اشتهر أهله بحمل السلاح وعدم التخلي عنه... إنه انتصار مستحق لأنبل أجيال اليمن الذي صنع المعجزة وعاد بوطنه إلى بر الأمان وإلى لحظة الاستحقاق التاريخي لبناء دولته المدنية المنشودة والإطاحة بحكم العسكر إلى الأبد ونفوذ القوى المشيخية التي حظيت طوال عهد صالح بامتيازات استثنائية... الأمر المؤكد أيضاً أن المجلس الوطني وأحزاب المشترك جنبت اليمن محنة لا قبل له بها بصبرها ودأبها ومثابرتها، وقد تحملت الكثير من أجل الوصول بثورة الشباب إلى هدفها الأساسي الأول وهو رحيل رأس النظام وعائلته... هي تستحق الوقوف بجانبها ومساندتها في مرحلة الجهاد الأكبر المتمثل في إعادة بناء اليمن... ومن المؤكد أيضاً أنه لولا جهود استثنائية من نائب الرئيس عبدربه منصور والمستشار السياسي للرئيس د. عبدالكريم الإرياني لما أمكن التوصل للآلية التنفيذية للمبادرة... هؤلاء جميعاً أسهموا في نقل اليمن من احتمالات الانفجار إلى نقطة الانطلاق نحو المستقبل.
لازالت المكائد متوقعة ولازالت الألغام التي زرعتها السلطة موجودة ولم يتم نزعها... كل الاحتمالات لازالت واردة ويجب سحب البساط من تحت كل المتضررين من هذا الإنجاز الكبير حتى لا يفجروه فالدماء لا تعني لهم شيئاً وعلى جميع اليمنيين ألا يتوانوا عن فضحهم أياً كانوا... كما أنه من المهم جداً أن يضع الخليجيون ومجلس الأمن آليات واضحة لمراقبة مستوى التنفيذ، فقد تحدث بعض المقربين جداً من القادة العسكريين الموالين للرئيس صالح أن هناك نوايا لديهم بعدم تمرير فترة التسعين يوماً بسلام وأن محاولاتهم لتفجير الموقف ستستمر، لأنهم يعتبرون أن التوقيع على المبادرة وإن وفر مخرجاً آمناً لهم، لكنه لم يكن المخرج المشرف الذي كانوا يطمحون إليه.
حقق شباب اليمن الهدف الأول لثورتهم وهو إنهاء عهد طال به المقام حتى شاخ ولم يعد ينتج سوى الإحباط والفساد والدمار والفشل... انتهى عهد علي عبدالله صالح وسيترك الحكم عليه بإيجابياته وسلبياته للتاريخ... لن تزيد اليمنيين شيئاً محاكمته ولن ينقص من ثورتهم شيئاً رحيله سالماً عن السلطة... وإن ضحى الشباب بمئات الشهداء فإنهم حافظوا على حياة عشرات الآلاف منهم بعيداً عن محرقة القتال من أجل القبض عليه ومحاكمته، فهدف القبض عليه ومحاكمته يستحيل أن يتم في ظل سلمية الثورة وسيستدعي بالضرورة التحول للكفاح المسلح وهو ما يعني الدمار والخراب والتضحية بعشرات الآلاف من الشهداء وأضعافهم من الجرحى... هذا ما يقوله منطق العقل والحسابات البشرية... يصر الشباب على سلمية ثورتهم وهذا ما أعطاها التعاطف العالمي الكبير ومنح إحدى رموزها الناشطة توكل كرمان جائزة نوبل للسلام... ومقابل ذلك سيظل من حق الشباب وأهالي الشهداء رفع الدعاوى القضائية على كل الذين تورطوا في القتل فلا أحد يستطيع أن يسلبهم هذا الحق الشرعي والدستوري... وسيستمر الشباب في الساحات حتى انتخاب الرئيس التوافقي على الأقل ليحافظوا على زخم ثورتهم النبيلة وقوتها وصلابتها حتى تنجز بقية أهدافها وفي مقدمتها إنجاز الدستور الجديد الذي سيرسم معالم الدولة المدنية المنشودة.
نصر طه مصطفى
مخاضات ما بعد التوقيع! 1933