في ظل المراوحة التي يسعى النظام لاستمرارها، وبقاء الحال على ما هو عليه كونه يجيد ويتقن اللعب عليها يبدو المشهد اليمني مرشحاً لكافة الاحتمالات السلبية وأكثرها سوداوية بالنظر إلى إصرار رأس النظام على مواقفه وعدم قبوله بهيكلة الجيش وفق أسس وطنية تبدو هذه النقطة أكثر إثارة لتفجير الوضع عسكريا بالتزامن مع استفزازات يمارسها نظام صالح بحق القيادات العسكرية التي أعلنت انضمامها للثورة الشبابية الشعبية السلمية، وهو ما يذكرنا بالأسباب التي أدت إلى تفجر حرب صيف 1994م حيث أن الجوانب المتعلقة بالقضايا العسكرية والأمنية (والتي يتمترس خلفها النظام في كافة مواقفه ويجنح لها دائماً باعتبارها الملاذات الآمنة له) كانت موضع الخلاف الأبرز إلى جانب جملة من الأسباب الأخرى أدت في مجملها إلى تفجر الوضع واندلاع المواجهات، وذلك عقب المقترح الذي تقدم به الجانب المصري ممثلا بوكيل وزارة الخارجية المصرية حينها بدر بن همام في مدينة صلالة العمانية في 3 مايو 1994م، عقب لقاء الأردن الذي رعاه الملك حسين والذي أثمر وثيقة العهد والاتفاق 21 فبراير 1994م، حيث بدا الإخوة المصريون أكثر حرصاً على عدم الاقتتال وقدموا مقترحاً بسحب الوحدات العسكرية الشمالية إلى أماكن تمركزها السابقة وكذلك الوحدات العسكرية الجنوبية تعود إلى مواقعها السابقة قبل اتفاق الوحدة، كنزع لفتيل التوتر بين الجانبين على أن تبدأ عقب ذلك عملية الدمج المرحلي لتلك الوحدات، وهذا ما تم رفضه من طرف النظام في الشمال لأنه رأى فيه مقدمة للانفصال، ليستعر لهيب الخطابات والتصريحات بين الجانبين، ويبدأ اللواء الأول مدرع بمهاجمة اللواء الثالث واللذان كانا يتجاوران مع بعضهما واشتعلت المواجهات، بينما كانت الأطراف الإقليمية والدولية لا تزال تبحث التسوية وإيجاد حلول تحول دون المواجهة، وهاهو التاريخ يعيد نفسه ولكن الظروف والأسباب والحيثيات والدوافع مختلفة جذرياً ولم تعد تخدم النظام كما يترآى له ولمن حوله ومستشاريه، فالوضع يختلف والمواجهة إن حدثت فستكون مع الشعب ولصالح الشعب، أقول هذا وأنا اعي جيدا ما أقول وأقصد، صحيح أن الخسائر البشرية والمادية قد تكون كبيرة وجسيمة ولكنها ستنحصر في محافظتين أو ثلاث وستنتهي حتماً بانتصار الشعب على آلة القتل التي ما فتئت تفتك به يومياً، وهذه سنن الله في خلقه ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وإن كان النظام في اليمن وطوال فترة حكمه يرى في جنوحه إلى الخيارات العسكرية والحلول الأمنية طيلة الفترات السابقة، المخرج الأسهل فإنها لم تعد كذلك في الوقت الراهن، ولو كان يمتلك طائرات بي 52، والآباتشي وصواريخ كروز، فإن العوامل والمتغيرات على الأرض لم تعد ملائمة وليست في صالح النظام، والتي بدورها ستحول المعادلة وستغير الكفة خلال ساعات، ولذا فإن إصرار نظام صالح على عدم هيكلة المؤسستين العسكرية والأمنية ورفضه لهذا الإجراء بشدة، لم يأتِ من فراغ بل لحسابات الرجل التي كانت إلى قبل ثورة الشباب صائبة من وجهة نظره، لأنه طالما أستخدم ورقة الجيش والأمن لصالحه ونجح في تحقيق أهدافه ورغباته، وإن لم ينجح في تكريس تلك القناعة التي هي قناعة شخصية بحتة في عقول أبناء الشعب الذين يرون ومعهم كل العقلاء في هذا البلد أن الحلول العسكرية والمعالجات الأمنية لم ولن تكون يوماً في خدمة اليمن ودائماً ما كانت تأتي نتائجها سلبية وعكسية، بل تكرس تخلف اليمن وتأخرها وتأليب الطرف المستهدف الذي يتحول بفعل تلك السياسات إلى عدو كامن يتحين الفرص السانحة للثأر، ناهيك عن آثارها على الاقتصاد الوطني وإسهامها الحقيقي في إعاقة نهضة الوطن وتقدمه، وإيغار الصدور والنفوس، وصنع الأحقاد وزرع الضغائن، لكن هي كذلك العقليات العسكرية عندما لا ترى إلا بعين واحدة.
وبهذا تصبح المؤسسة العسكرية والأمنية حاضرة وفي ظل تمنع النظام وإصراره على عدم هيكلتها وفق أسس وطنية موضع الخلاف في حال تم التوقيع على المبادرة الخليجية -وهو احتمال ضعيف أن يتم- وفي ظل الأوضاع الحرجة التي تمر بها اليمن وما ينتظرها في قادم الأيام من شيطان التفاصيل الذي يبدو أنه سيلحق باليمنيين مزيد من الآلام والجراحات، وهو ما يضع كافة المنتسبين إلى المؤسسة العسكرية والأمنية وخصوصاً ضباط وجنود وصف الحرس الجمهوري والأمن المركزي، وقوات مكافحة الإرهاب أمام مسؤولياتهم التاريخية والوطنية في الوقوف إلى جانب الشعب والوطن حقنا للدماء وصونا للأعراض والممتلكات، وهذا عائد إلى الحس الوطني والمسؤولية الاجتماعية اللذان يتمتع بهما منتسبو المؤسسة العسكرية والأمنية، ومدى تفهمهم للدور الملقى على عواتقهم تجاه الوطن وأمنه واستقراره.
وذلك بعدم إنجرارهم للمشاركة في أي حرب عبثية أو الوقوع في مغامرات طائشة وغير محسوبة الآثار المدمرة والنتائج الوخيمة، وعليهم أن يعوا أنهم سيدخلون في حرب مع شعبهم وهي حرب خاسرة لا محالة، ولن يكسبها الطرف الذي سيشعلها مهما كانت قوته، نقول هذا ونحن نشاهد ونرى ممارسات يقوم بها بعض المنتسبين للمؤسسة العسكرية والأمنية وقد تحولوا إلى آلة للقتل والبطش والتدمير، وما يحدث في صنعاء و تعز و أرحب ونهم يؤكد حقيقة ذلك القتل الغير مبرر، والذي يبدو كأنه عقوبة ظالمة تلحق بهذا الشعب جزاء لصبره عقود من الزمن وهو يتجرع مرارة القهر والبؤس والحرمان، ويعاني الفقر والمجاعة، ويحاصره الظلم والظلام من كل مكان، ويزداد الأمر فداحة ويصبح أكثر جرماً عندما يكافأ هذا الشعب نظير كل ذلك الصبر والتحمل بقذائف الموت وحمم الدمار ورصاصات الغدر.
وإزاء تلك الاعتداءات الوحشية والمجازر الجهنمية التي تطال العزل والمواطنين ينبغي على كافة منتسبي المؤسسة العسكرية ألا يتعاملوا معها بضمائر من خشب وعليهم تحمل مسؤولياتهم الدينية والوطنية والأخلاقية في حماية شعب هم جزء منه، وألا يسمحوا لكائن من كان أن يجعل بقاءه في الكرسي مقابل حق الحياة لـ 25 مليون إنسان، أو إحراق اليمن بديلا له ولأولاده.
وإلا يكونوا قد قبلوا بالمعادلة المستحيلة التي يفرضها النظام المستبد والمتمثلة في الموت واستمرارية الاستبداد أو التدخل الخارجي، ما لم يعلنوا موقفهم الحازم والصريح من الطرف الذي يقود الأمور نحو المواجهات الدامية التي سيكون شرها مستطيراً.
إن مسألة هيكلة الجيش قبل الانتخابات لم تعد مسألة قابلة للأخذ والرد في ظل آلة القتل التي تعمل في جسد هذا الشعب، وبات أمراً ضرورياً وضروري جداً قبل إجراء أي انتخابات أو تسويات ستغمر في طريقها تضحيات الشباب الذين بذلوا أرواحهم ودماؤهم رخيصة في سبيل مستقبل مشرق تشرق شمسه على كل اليمنيين وليس على فئة معينة أو حزب معين أو أسرة محددة.
على أن تراعي تلك الهيكلة حجم اليمن التي كبرت بوحدتها المباركة، بحيث يكون الجيش اليمني بعد الثورة قادراً ومقتدراً على حماية أمن واستقرار البلد داخلياً وخارجياً، وذلك حتى لا يفهم أن الدعوة لهيكلة الجيش هدفها خصخصته كما هو حاصل اليوم.
إن من حسنات ثورة 11فبراير أنها كشفت لليمنيين أنه ليس لديهم جيش وطني يمكن الاعتماد عليه والمفاخرة به كما هو الحال في مصر وتونس، وتبدى له من خلال الوقائع والأحداث التي جاءت بها الثورة الشبابية الشعبية أنه ورغم الميزانية الضخمة المخصصة للمؤسسة العسكرية والأمنية إلا أنه لم يكن هناك جيش باسم اليمن بل ظهر جيشا – باستثناء الوحدات العسكرية التي أيدت الثورة وأعلنت انضمامها للثورة – تابعاً لمراكز قوى ونافذين وقبائل وأسر ومشيخات، وولاؤه ليس للوطن اليمني بل لشخص واحد ولحزب، وهذا ما أضعفه كثيراً، ومكن الفاسدين من أن يستغلوا جهل بعض المنتسبين للمؤسسة العسكرية والأمنية فغرروا بهم وشحنوهم بثقافة التعبئة الخاطئة والحاقدة التي تمجد الفرد وتسبح بحمده، فراحوا على إثر ذلك الشحن الدموي يفتكون بإخوانهم قتلاً وسحلاً وخطفاً وتعذيباً، ولم يستثنوا حتى إخوانهم في السلاح من منتسبي الوحدات العسكرية التي أعلنت انضمامها للثورة، وكل ذلك في سبيل شخص، اعتقادا من هذا العسكري أو الجُندي المسكين أنه وما لم يقتل أخاه وينفذ أوامر ما أنزل بها من سلطان، فإن الراتب سيتوقف، ونسي هؤلاء أن الرزاق هو الله، وليس قائد الكتيبة الفلانية ولا قائد اللواء أو السرية، وفي ظل هكذا وعي وفهم يصبح ولاء العسكري مرهون بتأليه الأشخاص والدفاع عنهم، وهنا يظهر سبب الانقسام في المؤسسة العسكرية والأمنية التي تم بناؤها وتربية منتسبيها على الولاء للفرد الزائل، على حساب الوطن الباقي، ومن خلال ماسبق يتضح لنا أن توقيع المبادرة الخليجية لن يحل المشكلة كما يعتقد البعض،ولن يعجل بالحسم الثوري، بل سيدخلها في دياجير مظلمة أخرى ملئيه باللف والدوران والحيل والمغالطات والتسويف والتمطيط والمراوغة، بل إن ذلك التوقيع المنتظر لن يؤدي إلى حل سياسي وانفراج في المشهد اليمني بقدر ما سيكون تصعيداً أخر وتسريعاً للحرب المحتملة.
ولاشك أن إصلاح وضع الجيش ليكون جيش اليمن وليس جيش فلان أو علاّن، إنما يتوقف على ضرورة استئصال الداء الذي ينخر منذ زمن في جسد المؤسسة العسكرية التي ينظر إليها كشريك فاعل في إنقاذ الوطن اليمني من التشضي والضياع والانقسام، ولن يتأتى ذلك إلا بهيكلة المؤسسة العسكرية وإعادة بنائها وفق أسس ومعايير وطنية وعالمية وذلك قبل إجراء أي انتخابات، بحيث يصبح الجيش قوة لحماية الوطن وأمن الشعب،لا قوة غاشمة وأداة متسلطة بيد عصابة متنفذة تقتل الشعب وتسحقه.
لقد آن الأوان لإخراج المؤسسة العسكرية والأمنية من أزمتها الراهنة كشرط أساسي ورئيسي لإخراج اليمن مما هي فيه، ذلك أن مكمن الأزمة الراهنة التي حالت دون نجاح الثورة واكتمال مسيرتها هو تحول المؤسسة العسكرية من مؤسسة وطنية كان يجب أن تكون عند مستوى آمال وطموحات الشعب اليمني، في الدفاع عنه وعن سيادة أراضيه وحماية أمنه واستقراره وتحوله من مؤسسة الصالح العسكرية التي لاتزال أصابع منتسبيها في تلك الوحدات العسكرية على الزناد يفتكون قتلا وقنصا بالعزل من النساء والأطفال والشباب والشيوخ، ويبذلون قصارى جهدهم لتدمير منازلهم وقراهم ومزارعهم وتشرديهم بعدما تم تجرديهم من أبسط مقومات الحياة الإنسانية، ولذا بات جدير بتلك الوحدات والألوية التي تمارس القتل بحق المواطنين كوجبات يومية أن يطلق عليها(جمعية الصالح العسكرية)ولقد أدى تحول الجيش من مؤسسة عسكرية وطنية إلى مؤسسة الصالح العسكرتارية إلى فقدانه لصفته الشرعية والدستورية والقانونية التي أوجد لأجلها، كون مهمته الأساسية وفقا لما يقرره الدستور حماية الوطن والمواطنين والحيلولة دون أي محاولة تؤدي إلى تحول المؤسسة العسكرية والأمنية إلى طرف في الصراع ومواجهة الشعب، بل ويشدد الدستور على واجب الجيش في حماية اليمن واليمنيين والدفع عنهم أية أخطار تتهددهم سواء كانت هذه الأخطار داخلية أو خارجية، إلا أن ما يحز في نفس كل يمني هو أن الجيش الوطني الذي تم تأسيسه على نظريتي السيادة لليمن والحماية لمواطنيها، تجسيدا للدور الوطني الملقى على كاهله،لم يكن موجودا على أرض الواقع، وما كان لهذه الحقيقة أن تغيب عن الواقع العملي إلا نتيجة استبدال الجيش بمؤسسة الصالح العسكرية، الأمر الذي يجعل عملية إعادة هيكلة الجيش اليمني وقبل إجراء أية انتخابات ضرورة وطنية، شريطة أن تتوفر القناعة لدى كافة الأطراف بضرورة القيام بهذا الإجراء وأن يكون مجرداً من كل الأهواء وبعيدا عن كل الأحقاد والضغائن، والنأي بكافة الوحدات العسكرية عن المكايدات السياسية ليكون الجيش جيش اليمن.
ولقد كنا نأمل من كافة أبناء القوات المسلحة والأمن القيام بدورهم في مثل هذه المرحلة الخطرة التي يمر بها اليمن والوقوف إلى جانب الشعب، ودرء الخطر المحدق بهذا البلد أرضا وإنساناً، ومنع وقوع الاحتراب وإنهاء حالة الاحتقانات المتبادلة والإستنفارات المضادة ومحاصرة الحرب المنهكة ونتائجها المدمرة.
ختاما ينبغي على أبطال القوات المسلحة والأمن ورجالها الشرفاء وكافة المنتسبين لها بدافع الدفاع عن الوطن وحماية مكتسباته، أن يعلموا جميعا أنه ما كان للحروب العبثية أن تتفشى كظاهرة مزمنة ومدمرة في اليمن لو كان الجيش واعيا ومستشعرا لمسؤولياته الدينية والوطنية والأخلاقية.