في أزمة الخليج الأولى كان الرئيس قد قال لوسائل الإعلام بأن اليمنيين سيواجهون العزلة أو الحصار الخليجي والدولي، بالعودة إلى تراث الإباء والأجداد، فالفانوس والحمير ستغنيان اليمنيين عن ضوء الكهرباء والسيارات، عانت البلاد ما عانت جراء الموقف السياسي الأرعن والغادر لدولة عربية شقيقة لم تبخل أو تمن يوماً على اليمنيين شمالاً وجنوباً.
لم تنطفئ الكهرباء ولم نركب البغال مثلما هو حالنا اليوم وبعد مضي عشرين عاماً، دفع اليمنيون ثمناً باهظاً ومازالوا حتى اللحظة يتجرعون ويلات ذلكم الموقف المخزي المؤيد لاحتلال الكويت وإن بستار رفض التدخل الخارجي.
أكثر من مليوني مغترب فقط عادوا من الشقيقة المملكة، ناهيك عن بقية دول الخليج الخمس التي كانت قد طردت أو ضاقت باليمنيين دون سبب أو مبرر أخلاقي وسياسي سوى أن رئيسهم يقود بلدهم المتوحد لتوه بالفهلوة والنزوة والهوى الشخصي لا بمنطق الحكمة والحنكة وغلبة المصلحة الوطنية الجمعية.
عشرون سنة ويزيد ونحن في محاولات لا تنتهي لترميم وإصلاح ما أفسده النظام الفردي، ليت المسألة اقتصرت على علاقة اليمن بدول الجوار والإقليم لهانت؛ إنما المسألة تمددت وتوسعت وتعقدت وطنياً ومعيشياً وخدمياً وديمقراطياً وووالخ؛ فهذه الوحدة الوطنية صارت في عهد المشير بحاجة لمعجزة تلملم شتاتها وتمزقها الوجداني والمعنوي.
فحرب صيف 94م كارثة حقيقة على الإنسان اليمني وبدرجة أساسية على الجنوبيين الذين مازالوا يعانون من وطأة المواطنة الناقصة ومن الحيف والتنكيل والنفي وغيرها من الأشياء الممارسة المسيئة للوحدة السياسية باعتبارها قيمه معنوية ونفسية ووجدانية قبل أي شيء آخر مادياً ومعيشياً، كذلك الحال بالنسبة للمواطن في الشمال الذي طاله ما طال من صنوف القهر والعبث والاقتتال والدونية والتهميش.
قبل الحرب بشهرين كان الرئيس قد وقع على اتفاقية العهد والاتفاق في العاصمة الأردنية عمان يوم "20" فبراير 94م وبحضور الملك/ حسين والرئيس/ عرفات وبإشراف الملحقين العسكريين الفرنسي والأميركي، وقتها تعهد الرئيس بتنفيذ الوثيقة بنداً بنداً وفقرة فقرة بل وزاد أن تعهد بطي صفحة الماضي وبوفاء الرجال المخلصين لجلالة الملك ولكل من أسهم ودعم وثيقة الإجماع الوطني بكونها الحل الذي سيحفظ وحدة اليمن.
لم يجد عذراً حينها سوى أن النائب البيض عاد إلى عدن وليس إلى صنعاء، عذر أقبح من ذنب، اندلعت الحرب وتأكد للقاصي والداني أن الرئيس صالح هو من أعد وجهز للحرب أكثر من سواه، بعد انتصار "7" يوليو كان الرئيس قد أعتبر وثيقة العهد خيانة عظمى، لا أدري كيف لرئيس دولة خيانة بلده وشعبه وبجرة قلم ومن ثم يبقى رئيساً تقياً ومنزهاً؟
اليوم يبدو المشهد مخيفاً ومقلقاً، فكلما قلنا بانفراج هذه الوضعية البائسة عاد بنا الرئيس إلى مربع الكذب والمراوغة والمماطلة والتأجيل، كأن توقيع الرئيس هو المعضلة والحل! ألم يصفه الكاتب عبد الباري عطوان بقلم الرصاص ! فما سيكتبه برأسه سيمحوه بمؤخرته.
ليست المرة الأولى التي ينكث بوعده،لطالما فعل ذلك مع شركائه في الوحدة عام 90م وكذا مع حلفائه في الحرب والانتخابات والإرهاب ووولخ، ففي كل مرة يوقع فيها على ميثاق أو اتفاق أدرك جليا أنه أول الناكثين بها، الفارق الوحيد الذي يدعونا للتفاؤل والاطمئنان الآن أنه بات مكشوفاً ومفضوحاً لنا ولدول كثر مؤثرة في السياسة الدولية.
ما من شيء إلا وطاله الغدر أو النكث، تصوروا رجلاً مؤهله الوحيد الحيلة والمكيدة والكذب ! الوحدة تم وأدها والإجهاز عليها نتيجة لهذا الغدر والنكث باتفاقيات دولة الوحدة، وثيقة العهد والاتفاق تم الالتفاف عليها بذات الطريقة، فكانت النتيجة حرباً كارثية دمرت كل شيء تقريباً، لا أدري كم هي المرات التي وقع فيها الرئيس ومن ثم تنصل ؟ ما أعلمه بعد السنين المريرة أنه كان أكبر نكبة حلت بهذه البلاد وأناسها.
يوقع أم لا يوقع! من يظن أن التوقيع سيحل مشكلات اليمن، فالرئيس في نهاية المطاف سيوقع على اليمن وليس فقط على نقل السلطة لنائبه وفي ظرفية صار فيها وحيداً ومعزولاً ولا يملك خياراً آخر غير التوقيع أو الانتحار، المهم لليمنيين الآن هو الانتقال إلى مرحلة ما بعد الرئيس صالح، هذا الانتقال تم بموجب مبادرة دول الخليج أو من دونها، شخصياً لا أثق مطلقاً برئيس كذب ثم كذب ثم كذب حتى سئمنا ومللنا كذبه.
محمد علي محسن
وعدنا للفانوس والحمير 2530