اعتقدت المبادرة الخليجية الأولى بأن النظام السياسي في اليمن هو من النظم البرلمانية القائمة في العالم، يكون رئيس الدولة رمزاً للسيادة وبروتوكولياً والحزب الحائز على الأغلبية "القائمة النسبية أو المختلطة" هو الحاكم وبأن هناك فصلاً بين السلطات وسلطات قضائية وتشريعية مستقلة ونزيهة وبأن هناك تداولاً سلمياً للسلطة بين الأحزاب المتنافسة أو حتى بين حزبين أو ثلاثة متنافسين كما هو متوفر في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، حيث نصت المادة الخامسة منها ما يلي: "يدعو الرئيس بالإنابة إلى انتخابات رئاسية في غضون ستين يوماً بموجب الدستور".
إن أهم ما في هذه المبادرة بصيغها الخمس هو إهمالها للانتفاضة الشعبية في حالتها الثورية وإغفالها لما ارتكبه المجرمون في هذا النظام طيلة فترة حكمه والآن من مذابح بشرية وجرائم ضد الإنسانية أبكت الأجنة في أرحام الأمهات.. والأدهى من ذلك أن المبادرة مارست تضليلاً باهراً حينما اشتركت في كل جرائم النظام عبر إقرار تشريع مناهض للقانون الإنساني وكسابقة خطيرة محلياً وعالمياً يعفى المجرمون بموجبه من المساءلة القانونية، الأمر الذي يؤدي إلى تعطيل العدالة وإهدار حياة الناس وتشجيع المجرمين لارتكاب المزيد من الجرائم.
والذين صاغوا المبادرة الكرتونية كانوا على علم بأن نظام الحكم في صنعاء طغموي فاشستي شمولي، لا يعرف من الديمقراطية غير الكلمة لأغراض تضليلية ولكي يؤبد للسلطة كوريثة غير قابلة للتداول ولو كلف ذلك إبادة المجتمعات اليمنية كما هو حاصل الآن في كل شبر من الجمهورية اليمنية وهم على علم بفساده واسع النطاق ويعرفون الواقع الاجتماعي وثقافته المتخلفة والتي زادها نظام الطغمة تخلفاً مكثفاً إذ تبلغ نسبة الأمية الأبجدية بين الإناث حوالي 70% وما تبقى من المتعلمين هم عبارة عن أسرى لتعليم التلقين المصحوب بالغش أما النخب المبدعة فحدث ولا حرج ومن سلم من القمع والإهانة غادر البلاد للبحث عن ملاذ آمن لإبداعه، وتحضر البطالة بكل أنواعها بقوة وتوسعت طبقة الفقراء والفقر جداً.
وحينما يدور الحديث عن الانتخابات في اليمن من الضرورة التوقف عند كل المحطات منذ انتصار "26" سبتمبر 1962م مروراً بقيام دولة الاستقلال في الجنوب لأننا سنكتشف أن الانتخابات عبارة عن جملة جوفاء، فالحزب الواحد في الجنوب أقام انتخابات وحيداً وفي الشمال أديرت الانتخابات بواسطة القائد العسكري الحاكم، أي أن كافة أعضاء مجالس الشعب والمجالس المحلية يتم تعيينهم من المركز، صنعاء أو عدن وبالأمر يصنعون التشريعات ويصوتون عليها مفصلة على مقاس قيادة الحزب الواحد والقائد العسكري الحاكم.
وفيما يتعلق بقانون الانتخابات ولجنة الانتخابات والإدارة الانتخابية فجميعها مصممة على مقاس قيادة الحزب الواحد والقائد العسكري الحاكم وهي التي تخرج الممثلين الهزليين في الإطارات المختلفة.
والمحطة الانتخابية الأولى في 1993م عكست ما كانت عليه العملية الانتخابية قبل وحدة 22 مايو 1990م ولم تأتِ بجديد نوعي على صعيد الشراكة السياسية للمجتمع برمته.
انتخابات تتحكم فيها القوى الأمنية وعدم النزاهة والأموال المنفقة يصنف بكونها جزءاً هاماً من الفساد المالي والإداري والسياسي والقيمي، فكيف سيكون المشهد الانتخابي وفقاً للمادة الخامسة من المبادرة استناداً للقانون الحالي واللجنة العليا للانتخابات والإدارة الانتخابية الحالية والسيطرة الكاملة على المال العام من قبل طرف كتائب الحرس والأمن وعلى وسائل الإعلام؟
أعتقد أن المبادرة تحاول إعادة إنتاج نظام الحكم السابق بكل تفاصيله المملة وتكرس قوننة أو شرعنة الفساد والاستبداد الجديد والقديم مع بعض الرتوش المؤقتة كتشكيل المعارضة للحكومة خاصة بعد أن تكون الانتفاضة في حالتها الثورية قد أجهضت وعادت إلى نقطة الصفر السلبية.
واستناداً إلى نقد العملية الانتخابية السابقة وما تدعو إليه المبادرة الخليجية فإن اليمن الآن ليست بحاجة إلى انتخابات رئاسية أو برلمانية تكرس الماضي بل بحاجة إلى نقل السلطة سريعاً إلى المدنيين وإغلاق ملف العسكر وعائلاتهم نهائياً، للبدء في فترة انتقالية الهدف منها إعمار ما دمرته الآلة القهرية وترميم الاقتصاد المنهار، تمهيداً لإنهاضه وإعادة هيكلة الدولة على أساس فيدرالي وتقوم على أساس دعم القانون وحماية وصون الحريات والحقوق وصولاً إلى تحقيق الحقوق المتساوية.
إن الدولة الاتحادية القانونية ينبغي أن تكون على رأس أجندة الانتفاضة في حالتها الثورية والمنتصرة وهي التي عليها تشكيل مفوضية للدستور وإعادة النظر في القوانين سيئة السمعة والمناهضة للحقوق والحريات وقد تستغرق الفترة الانتقالية ما بين عشر سنوات إلى خمس عشرة سنة.