يكثر الحديث دوماً عن هامش القضايا والأحداث المؤثرة في حياة الناس، على حساب إهمال التركيز جوهر تلك القضايا والأحداث ومتن الأفكار الملهمة للتغيير، وإحداث فارق في تاريخ ومستقبل الشعوب ـ وهنا يبرز بصورة قوية وواضحة الحديث عن وسائل الإعلام والقنوات الفضائية، التي برزت خلال العقدين الماضيين، مستفيدة من التطور الكبير لتكنولوجيا الاتصالات، الذي أخرج وسائل الإعلام المرئي من حيز الهيمنة والاحتكار الذي مارسته الأنظمة العربية لأكثر من ستة عقود مضت، استخدمت خلالها الأنظمة العربية القنوات الفضائية لتعزيز هيمنتها وسيطرتها وإخضاع الشعوب العربية والتشويش عليها والتحكم في حجم ونوع المعلومات التي تتعرض لها الشعوب، مما خلق علاقة سيئة غير متكافئة بين المرسل والمتلقي، يقوم على أحادية الرسالة وجعلها أداة للسيطرة على الوعي وتوجيه الجمهور باتجاه قضايا هامشية لا تتعدى التوجيه والتلقين السياسي،وفي أحيان كثيرة التسلية والترفيه.
{1}
لم تحظ قناة تلفزيونية إخبارية عربية أو أجنبية بقدر كبير من الجدل والنقد والتأثير والمتابعة،بما حظيت به قناة "الجزيرة" التي ظهرت للمرة الأولى في عام 1994م، بسبب خروجها عن النمط المهني والتقني المألوف في المنطقة العربية القائم على التسبيح والتمجيد للأنظمة العربية والحكام المتبلدين على كراسي الحكم لفترات طويلة، وتعرضت القناة لهجوم شرس من قبل كافة الأنظمة العربية وحتى الغربية،بسبب اختيارها لأسلوب عمل مغاير للمألوف، ونجحت القناة ـ خلال فترة قصيرة ـ في كسب احترام ومتابعة المشاهد العربي المتعطش لاستقاء المعلومات والأخبار من مصادر تحترم عقله، وتقدم له زوايا أخرى للأحداث التي تمر بها المنطقة والعالم، وتسمح بإبراز وجهات النظر المختلفة والمتضادة في أحيان كثيرة.
2))
فجأة اكتشفت الأنظمة العربية هشاشة ترسانتها الإعلامية الضخمة التابعة لسيطرتها، في مواجهة قناة وحيدة شقت طريقها في وسط الركام الإعلامي العربي الرسمي بكل سهوله ويسر وأسقطت سطوة واحتكار المنظومة الإعلامية التقليدية بترسانتها الضخمة، وبدت الجزيرة ككابوس مزعج وضيف ثقيل غير مرحب به لدى الأنظمة الاستبدادية التي احتكرت الفضاء الإعلامي لعقود طويلة.
كشفت الجزيرة ـ خلال مسيرتها المهنية الحافلة ـ هشاشة وضعف الأنظمة العربية، وكشفت المستور والمسكوت عنها، فحاولت تلك الأنظمة إسكات صوت الجزيرة، مستخدمة الترهيب والترغيب ضدها، وضد صحفييها ومراسليها في البلدان العربية، وتعرض عدد من مراسليها للقتل والاعتقال والملاحقة والتهديد، كما أغلقت وأتلفت العديد من مكاتبها في عدة عواصم عربية، وشنت الحكومات والأنظمة العربية هجمات عنيفة على أدائها وشككت في مهنيتها، واعتبرتها شراً محيقاً وخطراً على المنطقة والعالم واتهمتها بدعم الإرهاب والتخريب وغيرها من التهم البلهاء، التي لم تضر الجزيرة بل عززت من مكانتها لدى الجمهور العربي.
"3"
اكتشفت الأنظمة العربية والغربية أنها لن تستطيع الاعتماد مرة أخرى على وسائل الاعلام الحكومية التابعة لها بسبب عزوف المشاهدين عن مشاهدتها وتصديق أي معلومات أو أخبار تقوم ببثها، حيث بات المواطن العربي يفضل متابعة الأحداث التي تجري في بلاده أو في العالم عبر شاشة الجزيرة، وبالتالي بدأت تلك الدول والأنظمة في التفكير في تكرار تجربة الجزيرة عبر استنساخ فكرة القناة وإنشاء قنوات إخبارية مشابهة، كما قامت الدول الغربية باتخاذ نفس الخطوة، فظهرت عشرات القنوات الإخبارية بشكل جديد، لكنها كانت امتدادا لحقبة سابقة، فالحرة كانت بمثابة راديو صوت أميركا، ومثلها تأتي قنوات "بي بي سي" البريطانية، وفرنسا 24، وروسيا اليوم، وغيرها التي يمكن اعتبارها أدوات قديمة تم تطويرها وتحديثها لمحاولة منافسة الجزيرة ودورها المتنامي في التأثير على اتجاهات المشاهد العربي.
بمجيء تلك القنوات وظهورها على المشهد الإعلامي، ساهمت الجزيرة في تطوير الأداء الإعلامي وساهمت في خلق روح تنافسية جديدة في العمل الإعلامي، كان المشاهد العربي هو المستفيد الأكبر منه، ومع ظهور تلك القنوات بشكل أكثر مهنية حافظت "الجزيرة" على موقعها في صدارة القنوات المشاهدة والمفضلة لدى المشاهد العربي.
[4]
يرى العديد من خبراء الإعلام أن الجزيرة كانت أحد أهم الأسباب لتنامي الإحساس لدى المواطنين في مختلف البلدان العربية بضرورة التغيير، وكانت أحد أدواته، انطلاقاً من كون التغيير هو أحد أهداف وسائل الإعلام المتعددة.
غيرت الجزيرة أسلوب ودور وسائل الإعلام في البلدان العربية الذي كان قبل ظهور حقبة الجزيرة يقتصر على نقل الأخبار وفق معايير يضعها السياسيون، وليس وفق احتياجات المشاهدين، وقدمت القناة للمشاهد العربي الخبر من زوايا متعددة ووفق روايات مختلفة.
في موضوع ثورات الربيع العربي كانت قناة الجزيرة منحازة تماماً لخيار الشعوب العربية الراغبة في التغيير، ولم تصنع الحدث الكبير بل قامت بتسليط الضوء عليه ومن ثم دعمت مسار التحول بشكل لاحق أحياناً أو عبر تكثيف مساحة التغطية المواكبة للأحداث الجارية في بلدان الربيع العربي، وقد أسهمت تغطيتها الإعلامية المكثفة للمظاهرات والاحتجاجات في بداية الثورات العربية وخلال مراحلها المختلفة لتخفيف وطأة العنف والتنكيل ضد شباب الثورات العربية، وساهمت في دفع القنوات الإخبارية العربية والأجنبية لتسليط الضوء على تلك الثورات بشكل كثير، من أجل الحفاظ على بقاء تلك القنوات ضمن قائمة القنوات المشاهدة لدى الجمهور العربي، وأدت التغطية الكبيرة والمكثفة للثورات العربية لحث منظمات حقوق الإنسان الدولية للدخول على خط مراقبة انتهاكات الأنظمة العربية ضد المشاركين في تلك الثورات، وفي أحيان كثيرة عززت الأمل لدى الشباب العربي والنخب السياسية والثقافية والحقوقية في المنطقة العربية بإمكانية نجاح ثورات الشعوب الهادفة للتغيير عبر التغطية المستمرة للأحداث على مدار الساعة، وتسليط الضوء على المواقف الدولية إزاء تلك الثورات.
"5"
خلال أحداث الثورة العربية كانت قناة الجزيرة تعرض 12 شاشة مصغرة تنقل الأحداث من أثنى عشر مدينة عربية ثائرة على شاشة الجزيرة، محققة بذلك قفزة تقنية ومهنية تقدم لأول مرة للمشاهد العربي، تمكنه من متابعة ما يدور في 12 مدينة عربية في الوقت نفسه، حيث كان بمقدور المشاهد العربي رؤية المسيرات والمظاهرات والفعاليات السياسية في صنعاء وعدن وحلب وحماه ودير الزور والقاهرة والإسكندرية وتونس والبحرين، وعمان وبغداد وبني غازي وطرابلس وغيرها من المدن العربية.
(6)
دفعت الجزيرة ثمن غالياً وباهظاً لانتهاجها المسار المهني الذي تبنته خلال خمسة عشر عاماً من عمرها القصير نسبياً والطويل مهنياً، بسبب عملها في أحيان كثيرة في بيئة معادية لها، ترفض أن تنقلب عصا الإعلام السحرية التي امتلكتها الأنظمة العربية لزمن طويل عليها، فقد انقلبت العصا على الساحر، وكيف للعصا أن ترفض التحرك بنفس اتجاه حركة الساحر.