على حافة الدرب الذي اختطه لنفسه سقط العقيد القذافي قتيلاً غير مأسوف عليه والمخزي في واقعة السقوط انه قتل وهو يحارب أحفاد عمر المختار، شباب ليبيا الثوار، ولم يلقى حتفه وهو يقاتل قوات الناتو كما يتوهم بعض المزايدين.
اثنين وأربعين عاماً وليبيا تبدو للعالم وكأنها مصحة عقلية أو مشفى للأمراض النفسية، لكنها لم تكن تتسع سوى لمريض واحد هو الجنرال القذافي .
لكن ثوار ليبيا تمكنوا من إنهاء مهازل الزعيم وفصول طغيانه العسكري واستبداده السياسي بمقدرات ليبيا وكرامة الليبيين، وبمقتله نهار الخميس الفائت أسدل الليبيون الستار على مسرحيته حكمه الهزيلة، التي ربما فاقت ما نتجته الحياة البشرية من مشاهد العبثية والعدمية على مدى ثلاثة قرون من الزمن على اقل تقدير.
أربعة عقود من الزمن وأبناء ليبيا يعيشون على هامش حياة القذافي، هو الأصل وهم الفرع هو اللاعب الوحيد والشعب كله متفرج.
صحيح أن أوضاع ليبيا في عهد الطاغية لم تكن مختلفة عن أوضاع غيرها من البلدان العربية الخاضعة لحكم أنظمة فاشية مثل سوريا واليمن وتونس والعراق،لكن المختلف في النموذج الليبي والجدير بالاهتمام والتناول يكمن فقط في خصوصية الشخص المستبد وفداحة الأضرار المترتبة على حكمه.
فالمعلوم أن ليبيا تنتج كمية كبيرة من النفط عالي الجودة مرتفع السعر وعدد سكانها قليلون، وفي حال وجود إدارة رسمية تمتلك الحد المتوسط من المسؤولية والمواهلات العلمية للإدارة، فسيحتل المواطن الليبي المرتبة الأولى بين سكان دول العالم الثالث من حيث معدلات الرفاه المعيشي والرخاء الاقتصادي.
أما إذا كانت الإدارة العامة على مستوى عال من الأهلية والكفاءة، فسيكون المواطن الليبي في مرتبة الصدارة بين سكان العالم.لكن عندما آلت الأمور إلى الجنرال معمر وصلت نسبة الفقر في أوساط سكان ليبيا إلى 32%،رغم قلتهم.
في نظر بعض رواد الاهتمام العلمي عاش العقيد القذافي زعيماً مهووساً بأضواء الكاميرات وإثارة مصادر الرأي العام الإقليمي والعالمي، وهذا ما جعله يكرس جل اهتماماته الشخصية وإمكاناته الرئاسية في إنتاج مواقف مثيرة مرتبطة بأوهام الحاكم وأمراضه الشخصية.
إن شغفه الجنوني بالإثارة وتشبثه الدموي بالسلطة جعلاه يتحول من مهام رئيس الدولة إلى مهام عارض أزياء وكانت سلطته الرئاسية هي صالة العرض المثير للفقاعات الإعلامية والمشاغبات السياسية التي لا طائل منها سوى لفت الانتباه لشخص القذافي.
إذ تقتضي بروتكولات العمل في المناصب الرسمية خصوصاً في رئاسة الدولة، أن يتقيد شاغلها بمعاير تكبح جماح رغباته الشخصية ولا تتيح له مجالا يؤله ذاته المريضة إلى الحد المتوفر في نموج العقيد القذافي.
لذلك كان وصف رونالد ريجان (رئيس أمريكي سابق) للقذافي في نهاية الثمانينات دقيقاً جدا،عندما قال إن القذافي "عارض أزياء وليس رئيسا ً".
ووصف ريجان حينها لم يكن من قبيل التهكم والسخرية أو مجرد تعليق على ملابس العقيد، بل ينم عن علم وخبرة بالغة الدقة في وصف الموصوف.
واذا اعدنا النظر في اساليب القذافي الرسمية ابتداءً من الكتاب الأخضر ودفنه في الصحراء مرورا بكتائب الراهبات الثوريات والخيمة المرصعة بالذهب والألماس، إلى أكذوبة النهر الصناعي العظيم ومكاتب الإخوة الليبية، سنجد في كل هذه التريهات الإجرائية ما يشبه الخصوصية الباهتة التي تفقد أهميتها بمجرد ذكرها، ولا مبرر لها سوى البحث عن أثارات ملفتة النظر نحو بطريرك طرابلس.
وإذا لم تكن الإثارة هي الغاية فماذا يعني أن يتعمد القذافي في مؤتمر قمة عربية مخالفة لائحة الجلسة من خلال إشعال سيجارته ثم نفث دخانها في وجه رئيس الجلسة، وما هو مبرر مقترح الدولة الفاطمية ودولة اسراطين وفكرة ملك ملوك أفريقيا.
لن يستطيع أحد إقناعنا أن القذافي كان فاقد العقل حد الجنون والدليل على ذلك إذعانه لدفع تعويضات جريمة لوكربي ومبادرته إلى التصالح مع الإدارة الأمريكية بعد سقوط صدام حسين.
القذافي لم يكن مجنوناً سوى في عبثه بثروات ليبيا ودماء أبنائها من معارضيه.
لكن رغم مساوئ الرجل في الحكم إلا أن مقارنته بحاكم آخر في هذه الآونة تمنحه خاصية تميز إلى حد ما، كون القذافي أعلن المواجهة العسكرية من أول لحظة،لقد كان مجرماً وسفاحاً لكنه لم يكذب ولم يراوغ، لم يقتل شباب الثورة ثم ينكر جريمته ولم يقم مذابح هيلوكستية لشباب معتصم سلمياً في الساحات، القذافي رفض الحوار فيما آخرين يقتلون ويحاورون بلسانهم يراوغون ولا يصدقون ويقتلون ولا يعترفون يرحبون بقرار مجلس الأمن ويوجهون بحرب إبادة في بلدانهم.
Alsfwany29@yahoo.com