جاءت جمعة الوفاء للشهيد الحمدي لتنكأ جرحاً وتبعث ألماً وتستدعي حزناً على بعد أكثر من ثلاثين عاماً في عمق ذاكرة التاريخ اليمني.
جاءت هذه الجمعة لتذكرنا بمرحلة رجل عظيم، تعيش هذه المرحلة في ذاكرة الأجيال كالحلم الجميل، كأنها لم تكن حقيقة عاشها الوطن وسعد بها الجيل المعاصر والمعايش لما قبلها وما بعدها فيتذكرها كالنور الساطع الذي يظهر في منتصف الليل الحالك ولكنه لا يلبث أن يختفي ويتوارى مسرعاً ويعود الظلام إلى حالته بل يكون أشد حلكاً وقتامةً وظلمه.
صحيح أنها كانت مرحلة قصيرة ولكن منجزاتها كانت عظيمة بقدر عظمة طموح رجل المرحلة الشهيد/ إبراهيم الحمدي، الذي استلم قيادة البلاد وهي في أشد حالات الضعف والهزال والفرقة والتمزق والفوضى وتكاد سلطة الدولة لا تتجاوز أسوار القصر الجمهوري....لم يكن يمتلك الرجل عصى موسى ليحقق بها المعجزات ولكنه يمتلك الحب للوطن والإرادة الحديدية والتصميم والعزم على التغيير مهما كانت التضحية ومهما بدت العقبات على الطريق صعبة، رسم ملامح الطريق واختطها واختار المرور على الطريق الصعب في سبيل الخروج بالوطن من مأزقه إلى رحاب أوسع....فلم يقف في طريقه الفساد بمافياته وجلاوزته، ولم تخذله قلة الإمكانيات وقلة ذات اليد أو تمنعه عن الإستمرار ومواصلة المشوار ولم يرهبه قطاع الطرق عن فرض سيادة القانون وتطبيقه ولم تعجزه مراكز القوى والمتنفذون عن نشر وفرض مبدأ المواطنة المتساوية وخضوع الجميع للقانون مهما كانوا ومن كانوا.. ولم يرقص على رؤوس الثعابين أو يشتكي منها، وإنما رقص على أوتار تعزف ألحاناً تشدو وتغني للوطن ولوحدته التي كانت تشكل حلمه العظيم بعد تحقيق الحلم الأول الذي هو المضي بالوطن نحو الأفضل عن طريق إيجاد دولة النظام والقانون التي يعيش في ظلها كل أبناء الوطن متساوين بالحقوق والواجبات ومحاربة الفساد والرشوة والمحسوبية والنعرات والمناطقيه والقبلية والفئوية.
ثلاث سنوات من عمر الوطن كانت الأنصع والأنظف والأفضل والأجمل في تاريخ اليمن الحديث والمعاصر على الرغم من محدودية الفترة ومشاكلها وضغوطاتها الداخلية والخارجية إلا أنها شكلت التاريخ العظيم لمن يريد أن يكون عظيماً ولمن يحمل هماً وطنياً وكأنه الشهيد يقدم درساً للذين يكثرون الأعذار ويتهربون من إصلاح الأوضاع ومحاربة الفساد بأن الشعب مسلح وهمجي ومتخلف وأمي فقدم تلك التجربة التي كانت أكبر برهان على أن الشعب حضاري، مثله مثل كل الشعوب إذا وجدت القيادة التي تساعده على التحضر والمدنية واحترام سيادة القانون، فالزعيم الراحل لم يكن يحكم سويسرا وإنما حكم اليمن في ظل أوضاع أسوأ مما هي عليه اليوم بعشرات المرات ولكنه كما قلنا كان يمتلك الإرادة والعزيمة ويمتلك قبل ذلك حب الوطن،حيث جعل مصلحته العليا فوق كل المصالح ولهذا استطاع في أقل فترة إيجاد دولة المؤسسات فحقق خلال ثلاث سنوات وطن المعجزة، حين نقله من الحالة التي ذكرناها إلى حالة متقدمة في الإدارة والنظام والتعليم والأمن، ففرض مبدأ الثواب والعقاب...
ثلاث سنوات فقط أفقدت قيمتها وقضت على منجزاتها مرحلة تاريخية أعقبتها لأكثر من ثلاثين عاماً، تم خلالها استبدال النظام بالفوضى والقانون بالأعراف القبلية وتكريس مفهوم المناطقية العفنة بديلاً لمفهوم المواطنة المتساوية والفساد والرشوة بديلاً للإصلاح والتصحيح والمحاسبة وقلب مبدأ الثواب والعقاب حين يتم معاقبة المصلح ومحاربته في كل مؤسسة ومكافأة المفسد وتشجيعه وترقيته وتمكينه من الفساد، ومصادرة هيبة الدولة بتشجيع الخارجين عن القانون على التمادي والتطاول والتجاوز بإعفائهم وصرف المكافآت والمناصب لهم، والكلام يطول.. وحين تتصدر الفوضى كل شيء فإنها لم تكن آتية بنفسها وإنما تم الإعداد لها لأهداف تضر بالوطن وتخدم برأي صانعيها مصالحهم الذاتية، وهنا كان الفرق بين من يكون همه الوطن وبين من كان همه مصالحه الشخصية وضرب مصالح الوطن عرض الحائط، فهل من عودة بالوطن إلى مرحلة الدولة المدنية ولما كان عليه قبل أكثر من ثلاثة عقود؟!.. نتمنى ذلك.