بين رجل الدولة والسياسي فارق جوهري، الأول يتعالى على مصلحته الشخصية، وتدور كل تصرفاته وسياسته مع مصالح بلاده . فالسلطة ليست هدفاً لديه إنما واسطة من أجل تحقيق رؤية للنهضة والتطور . أما الآخر، فكل شيء لديه يدور حول مطامحه الذاتية . التمييز قد يختفي أحياناً حينما يحسن السياسي تلبس دور رجل الدولة، لكن الأزمات كاشفة لمعادن الرجال .
وما وعد به الرئيس اليمني بأنه زاهد في السلطة، وأنه سيغادرها خلال الأيام المقبلة أفضل اختبار لهذا التمييز . صحيح أن الوعود كانت في الماضي القريب كثيرة ولم يكن لها وجود في أرض الواقع إلا كوجود السراب للعطشان الذي أرهقه الظمأ، لكن أماني الناس في اليمن الآن أن يكون الوعد هذه المرة حقيقة، وأن يدحض كل ارتيابهم بصدق الوعد .
وإذا كانت الوعودب بالتغيير لا تعدو أن تكون سراباً يتبع آخر، فإن الحقائق المريرة على أرض اليمن تحثّ السياسي على أن يكون مرة رجل دولة يأخذ بتلابيبها حتى تكون بوصلته في إخراج البلاد من مأزقها الذي يتمادى، حتى لم يعد من بين الخيارات الممكنة خيار يسر أحداً لا داخل اليمن ولا في جواره . فاليمن يقف على شفير أكثر من هاوية، كل واحدة منها في تبعاتها مصيرية ومحزنة .
في اليمن الاقتصاد المتآكل أصلاً ينحدر في ضعفه حتى يكاد يصل إلى قاع من الصعب أن يحركه منه أي شيء مستقبلاً . ولنا في بعض البلدان في إفريقيا أمثلة على مثل هذا السقوط الذي لم يعد في الإمكان الخروج منه . والمجتمع اليمني يتهدده خطر أن تصبح الولاءات السياسية مدخلاً إلى الاقتتال الذي حينما يجتمع إلى الانهيار الاقتصادي سيخلق بلداً فاشلاً أقصى تطلعه أن يصبح أجزاء يبتعد بعضها عن الآخر حتى تنقذ نفسها من حروب أبدية يتردد في وديانها الدموية عويل القبلية والمذهبية وتوابعهما .
حروب كهذه ليس هناك ناج منها، فلن تكون لأحد سلطة يتمتع بها، أو صيت يتغنى به . وعلى كآبة الموقف ونذره المخيفة فإن الحل في المتناول إلا إذا كان التنازل عن المطامح الشخصية والاعتبارات الذاتية مسائل تقع في نطاق المحال . وقد أصبح التنازل عن هذه المسائل ممكناً نظرياً بعد الإعلان عن الزهد في السلطة والرغبة في تركها قريباً . وهذا لا يحتاج ممن يعلن عنه إلا أن يمضي قدماً، ومن الذين ينتظرون بفارغ الصبر أن تصدق الوعود إلا تسهيل التنفيذ .
وكلا الأمرين يتطلب رجال دولة يجعلون كل خطوة مرهونة بمصلحة البلاد والعباد، لا مشدودة إلى الأحلام الشخصية ومقيدة بالمصالح الآنية .
لقد كان من أجمل ما يتغنى به العرب على امتداد أوطانهم اليمن السعيد بغنى ثقافته، ورقي أهله، وخصب أرضه، فليدم لنا أهل الحل والعقد فيها هذا الغنى الجميل، بالتضحية بالأنانيات .
افتتاحية الخليج الاماراتية
مصلحة اليمن .... 1879