إن الوطنية الحقيقية قيمة مهمة في بناء الوطن، وحفظه من الفقر والمرض والجهل، وحمايته من مصائب الزمان، وكوارث الحياة، ومشكلات تقلبات الدهر، وهذه القيمة تسعى بالحياة والأحياء نحو البناء، لتحقيق العدل، وبسط الرفاه على مناحيه المختلفة، واستغلال فرص الوقت بما يعود خيراً ونفعاً للبشرية بصورة عامة وللأسرة المحلية والإقليمية، فتزيد مساحة الخير والرحمة والعدالة والمساواة وتسخير طاقات الكون لما يرضي الله، ويعود نفعه على البلاد والعباد من القريب والبعيد، وحماية الإقليم من كوارث الدهر.
إن الوطنية ليست عدواناً على الآخرين، ولا إقصاء لأحد، أو تهميشاً لأي طاقة من الطاقات، ولا تمييزاً بين الناس بلا برهان من الله، إن الوطنية قيمة إنسانية تقوم على الرحمة والحب لذا فهي تتقصى معاني الخير، وتبحث عن المشترك الإنساني لإقامة العدل بين الناس ورفع الظلم عن المظلومين، وتنـزيها للأبرياء من التهم الجزاف، وتسامحاً مع الحياة ومن فيها لإرضاء الله عز وجل.
ويمكن الإشارة إلى بعض ثمار الوطنية في قصة الملك في سورة يوسف فيما يلي:
الوطنية توصل الدولة إلى الدور الإقليمي:
قال فخر الدين الرازي في تفسيره مفاتح الغيب: اعلم أنه لما عم القحط في البلاد، ووصل أيضا إلى البلدة التي كان يسكنها يعقوب عليه السلام وصعب الزمان عليهم، فقال لبنيه: إن بمصر رجلاً صالحاً، يمير الناس؛ فاذهبوا إليه بدراهمكم، وخذوا الطعام، فخرجوا إليه.
إن الوطنية الحقيقية التي تحلى بها الملك في تمكينه ليوسف عليه السلام من العمل، وتنفيذ الخطة وفق التقدير المرسوم، وانضباط الشعب بجماهيره العريضة، وفئاته المختلفة في التزام السير المحدد في الزراعة لكل شبر من أرض مصر في سنوات الخصب، ثم التنفيذ الدقيق لخطة التمويل في سنوات الجدب بحسب الحاجة لكل شخص وكل أسرة بكيل معلوم قانوني يحدده صواع الملك، إن ذلك كله قد سمح لمصر بأن تتبوأ دوراً إقليمياً يمتد إلى الشام.
إن الوطنية الصادقة تمكن الأوطان من لعب دور فعال في محيطها الإقليمي، وتعطيها نفوذاً يمتد إلى خارج الحدود السياسية، وتشكل منها قوة اقتصادية محترمة الكلمة، وتعطيها محل القيادة والريادة والتفضل على الآخرين.
إن الوطنية تجعل البلدان محط أنظار المجتمع الإقليمي وتجعلها قنطرة النجاة في مراحل الأزمات التي تمر بها الشعوب، وتحيلها إلى أمل تهفو إليه القلوب، باعتبارها أداة الإنقاذ، فتمكن الدولة من القيام بدور الأب لبقية الدول حين تتحول الدولة الوطنية إلى مصدر أمان لبقية دول الإقليم، فيكون الانقياد بدون حاجة إلى الاقتتال بل برغبة وحب.
إن الوطنية تحرر الأوطان من وهدة الضعف، وترفعها إلى مراقي المجد، وتثبت مكانتها في مراتع العز، عملاً بأمر الله تعالى، وسيراً في مرضاة الله تعالى، فكل عمل من شأنه تقوية المسلمين هو عمل محمود ومرضي عنه وينبغي الحث عليه والسعي نحوه، ومن هنا تبنى الأوطان لتأخذ دورها في دورة الحياة المجيدة التي تصنع حياة كريمة ودوراً لائقاً للأوطان تحت الشمس.
إن الدور الإقليمي الذي نتج عن وطنية الملك قد بوأ مصر مكانة عالية، تليق بالأرض التي قال عنها الإمام مالك: إنها خزانة الأرض. بدليل قوله تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (55) سورة يوسف.
الوطنية تحفظ إمكانيات الدولة من البعثرة:
عندما قدم يوسف عليه السلام تأويل الرؤيا للملك وفيه أن البلاد ستمر بسبع سنوات خصب تتبعها سبع جدب، وأن على القائمين على الأمر في إدارة الدولة بمصر أن يجتهدوا في سنوات الخصب السبع لأنها سنوات بركة ونماء بما يمكن الدولة من ملء خزائنها استعداداً للسنوات العجاف، كان يضع الأمر في نصابه أمام الرجل الأول في الدولة.
وتحركت معاني الوطنية واهتماماتها في قلب الملك وسلم رئاسة الوزراء ليوسف عليه السلام لينفذ مشروع الإنقاذ الكبير الذي يمتد خمسة عشر عاماً، وتم تحريك كل قطاعات الدولة وفق الخطة المرسومة، وإعطاء يوسف عليه السلام كامل الصلاحيات لإنفاذ الخطة بكل دقة، وتوجهت أجهزة الدولة بحيوية وجد في اغتنام الفرصة الاقتصادية السانحة، التي حققت الطفرة الاقتصادية الكبيرة في سنوات الخصب والنماء والبركة، تحسباً لسنوات القحط الشديد التي تأكل كل ما يقدم إليها.
إن الوطنية الحقيقية ليست خصاماً مع الدين، ولا جفاء لحياة الإنسان، ولا عداوة بين البشر، واقتتالا على التراب، أو تحت رايات عمية ولا عمياء لا تعرف حقاً لله، ولا ترحم عبداً من عباد الله، إنها ليست تبديداً للثروة والخيرات التي يمتلكها الوطن على شهوات فرد، ونزوات أسرة، وأهواء حزب، إنها ثروة للإنسانية من هنا احتفظ النبي الكريم بالثروة المصرية وأنقذ الله به مصر والشام من المجاعة.
إنها خير تبحث عن الكفاءات، وتمكن للقدرات في بناء الأوطان، إن كل أرض تحتضن ساكنيها فهي وطنهم، والمسميات التي يتخذها العباد اليوم ما أنزل الله من سلطان، فالأرض أرض الله، وكل ساكن في أرض فهي وطنه، وله حق فيها، وعليه واجب نحوها، وهكذا استفادت مصر ملكاً وحكومة وشعباً من قدرات يوسف عليه السلام، وهو الرجل العبري غير المصري؛ لأنه يمتلك الكفاءة فهو حفيظ عليم.
إن الوطنية الصادقة حفظ للقدرات، وإحياء للأرض، وتعمير للبنيان، وبناء للأوطان، وهذا ما يعنيه الانتماء الصادق للأرض، إنه حياة حقيقية لكل شيء للبشر والشجر، جاء في صحيح ابن حبان وصححه شعيب الأنؤوط عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:"من أحيا أرضاً ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العافية فهو له صدقة".
بقي القول: إن الاستبداد عدو الوطنية الحقيقية وعدو الحياة، لأن الاستبداد يحول الإنسان إلى وحش مفترس يريد الإنتقام من كل من يريد الحرية، من هنا نجد الاستبداد هو أساس التخلف في كل بلاد ابتليت به.