إن الوطنية الحقيقية تعني البحث عن مصلحة الوطن الحقيقية، كما تدلنا على ذلك قصة الملك في قصة يوسف عليه السلام، قال الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} (50) سورة يوسف.
إن وطنية الملك في قصة يوسف قد دعته إلى البحث عن مصلحة الوطن، ولأجل ذلك كان سؤال أهل الاختصاص، حتى ولو كانوا في السجن، وتقريب العلماء والخبراء من أي قوم وقبيل، وتكريم أصحاب الكفاءات بلا تأخير، والبحث عنهم باجتهاد شديد، والكشف عن أماكنهم والسعي إليها، والاستماع إليهم والأخذ برأيهم، إن هذا ما تعنيه الوطنية في القرآن الكريم؛ فاهتمام الملك بشأن الرؤيا قد حرك أركان الدولة وحاشية القصر لأجل بيان الحقيقة، قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)} سورة يوسف.
ويتحرك ساقي الملك بمهمة وطنية من البلاط للنظر في تأويل هذه الرؤيا، بحثاً عن العلم بها، ومعرفة تأويلها، {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} سورة يوسف.
ويعود إلى الملك ويضع الأمر بين يديه، ويأتيه بالخبر اليقين، وهنا يتحرك الملك مرة أخرى في المصلحة الوطنية، وتقييم الموقف، ويهتم الملك بما احتواه تأويل الرؤيا، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} (50) سورة يوسف.
إن الملك يهتم بوطنه بعكس من يرى نفسه وطناً، فهو الوطن، فلا يبالي بأحد، ولا يلقي بالاً واعتبار إلا لمصالح الحاشية، بل يتحرك لمصلحة الوطن، وإن كان فيه إضرار بمن أساؤوا في حق الوطن، وارتكبوا الخطايا في حقوق الناس، لم يدافع الملك عن الخائنين، ولا جعل من نفسه حامياً للفاسدين، ولا خصماً لدوداً للحق، وعدواً أكيداً للحقيقة، لكن الإعلام الرسمي الزائف يجعل الوطنية عداوة للحق، وخصومة مع الحقيقة، ولا يتورع من إطلاقها على اللدود في الخصام، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (204) سورة البقرة.. ممن يفجر في خصومته، وفي الحديث الشريف المتفق على صحته، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: "إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجعل من اكتملت فيه هذه الصفات منافقاً خالصاً، ومع ذلك لا تأنف الوطنية أن تلقي عليه ثوبها، وتجعله تحت سربالها.
قال أهل العلم: "منافقاً خالصاً"، قد استجمع صفات النفاق.. "خصلة" صفة.. "يدعها" يتركها ويخلص نفسه منها.. "غدر" ترك الوفاء بالعهد.. "خاصم" نازع وجادل.. "فجر" مال عن الحق واحتال في رده.
إن الوطنية التي تحلى بها الملك في قصة يوسف عليه السلام قد حملته إلى أن يقوم شخصياً بمعالجة خطأ الدولة في حق يوسف عليه السلام بنفسه، ولا يوكله إلى غيره، فقد سلف من الدولة تعامي عن الحق حين سجنت يوسف ظلماً، وتوغلت في الباطل حين هتكت ستر نبي بريء لأجل هوى امرأة، فباشر الملك التحقيق بنفسه؛ إنها الوطنية الحقيقية، {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} (51) سورة يوسف.
إن الوطنية تعني أن تصحح الدولة أخطاءها، وأن تراجع نفسها، عن الحسن قال أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى امرأة مغيبة، كان يُدَخل عليها؛ فأنكر ذلك، فأرسل إليها.. فقيل: لها أجيبي عمر.. فقالت: يا ويلها، ما لها ولعمر.. قال: فبينا هي في الطريق فزعت، فضربها الطلق، فدخلت داراً، فألقت ولدها، فصاح الصبي صيحتين، ثم مات، فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فأشار عليه بعضهم أن ليس عليك شيء، إنما أنت والٍ ومؤدب.. قال: وصمت علي كرم الله وجهه، فأقبل عليه: فقال ما تقول؟ قال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك، فلم ينصحوا لك.. أرى أن ديته عليك، فإنك أنت أفزعتها، وألقت ولدها في سببك، قال: فأمر علياً أن يقسم ديته على قريش؛ لأنه قتلٌ خطأ.. رواه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه.
ألا ما أشد معاني الوطنية في حياة هذا الملك.. يباشر التحقيق بنفسه، فأين هذا من النظام الذي يقود ورئيسه وأركانه وإعلامه الكذب والدسائس والمؤامرات ضد الأبرياء في حربهم لمعارضيهم، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (30) سورة الأنفال، ولذلك ذكر الملك في قصة يوسف بالخير، وسيظل يذكر بالخير أبد الدهر؛ لأنه أعمل عقله وأنقذ وطنه، وعمل لصالح أمته لا لصالح أسرته أو حزبه أو حاشيته المقربين منه.
أين هذا الفعل الوطني الكبير من الغاصب لكل مقدرات الحياة، المغتصب لكل إمكانية الدولة، والمخترق للقانون والدستور والمتسلط على رقاب العباد بالقوة الغاشمة والظلم الأكيد، يمنحه الإعلام لقب الوطنية، وينعته بأنه شخص وطني، وأن ما يقوم به هو وطنية من الطراز الأول، وخدمة للوطن من المستوى الرفيع، برغم أنه رأس في الضلال، قال الله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} (98) سورة هود.
قال القشيري: رضوا بمتابعة فرعون، فاستحقوا ما استحقه. لم يشعروا بخطئِهم، وكانوا يحسبون أنهم يُحْسَنون صُنْعاً. وإذا ما أوردهم النارَ فهو إمامُهم، وسيعلمون ما أصابهم من الخسران حين لا ينفع تضرعُهم وبكاؤُهم ولا ينقطع عذابُهم وعناؤهم، وتغلب خسارتهم وشقاؤهم - وذلك جزاءُ مَنْ كَفَرَ بمعبوده، وأسرف في مجاوزة حدوده.
إن الوطنية الحقيقية حملت ملك مصر على تصحيح أخطاء الدولة، ولم يقبل أن تضيع الأمة لأجل شهوة امرأة، وتقدم بأمته إلى الخير، ولم يتكبر على الحق، ولا تجبر، ولا خادع، إنها وطنية رجل يحب شعبه ويخاف على أمته.
إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "أيما والٍ ولي شيئاً من أمر المسلمين فلم ينصح لهم ولم يجهد لهم كنصحه وجهده لنفسه كبه الله على وجهه يوم القيامة في النار".
إن أحد ملوك الصين في الزمن القديم أصيب في سمعه، فلم يعد يقدر على السمع، فاشتد عليه الأمر، فلما أرادت الحاشية أن تخفف عنه ما أصابه، قال لهم: ما بي ما تقولون.. إنما أخاف أن يأتي المظلوم فيرفع صوته فلا أسمعه، ولكن إذا عدمت سمعي فلم أعدم بصري، لا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم.
إن قتل المواطنين والعدوان عليهم والاعتداء على أرواحهم وممتلكاتهم ليس من الوطنية في شيء، إن ملك الصين هذا كافر يخاف أن يقع الظلم على فرد من رعيته فلا يسمع صوته، فكيف بمسلم يقتل النفس المحرمة ويهدم البيوت ويدمر المزارع ويشرد الآلاف ويغتال الطفولة، إن وطنية ملك الصين الذي أصدر مرسوماً ملكياً أن لا يلبس ثوباً أحمراً إلا مظلوم، تجعلنا ندرك لماذا تبقى الدول الكافرة حين تقوم بالعدل، وتزول الدول المسلمة حين تمارس الظلم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.