بعزم وتصميم، يمضي علي عبدالله صالح في إعادة إنتاج ذات الألاعيب والأساليب والتكتيكات التي كادت أن تتسبب في وضع حد لحياته.
لا يبدو أن الرجل قد اتعظ من حادثة جامع النهدين التي أوشكت على إلحاقه بالرفيق الأعلى، فجل المؤشرات تؤكد أنه لم يستخلص الدروس جيداً ولم يمعن في تأمل العبر.
حسب تفويضه الأخير لعبدربه منصور هادي بوسعنا الإدعاء أن المخادع والألعبان قد عاد من بين ألسنة النيران، ليستأنف أدوار البهلوان التي طالما أجاد ممارستها.
رغم أن النهج القديم لصالح بدا واضحاً منذ خطابه الأول عقب الحادث، وبالأخص حين انبرى ليؤكد على مجابهة التحدي بالتحدي، إلا أن الأمل ظل حاضراً لدى بعض المتفائلين في خروج الرجل بدروس وعبر من الحادث، بصورة تساعده على اتخاذ قرار التنحي السلمي والرضوخ لإرادة الشعب اليمني والمجتمع الدولي الداعية إلى نقل السلطة سلمياً.
بالنسبة لهؤلاء المتفائلين، لم تكن تلك الخطابات الصاخبة سوى تعبيرات انفعالية، تغذيها نزعات الانتقام ورغبات الثأر من عدو افتراضي، غير أن الرجل بدد ذلك الأمل سريعاً، ليؤكد –بقرار تفويض نائبه- رغبته في المضي قدماً بذات النهج والأسلوب الخداعي والتضليلي الذي دأب على ممارسته منذ اندلاع الثورة المجيدة وحتى وقوع حادثة جامع النهدين.
استخفاف صالحي بالإقليم والعالم:
كما كان متوقعاً، لم يجد الاجتماع الوزاري لمجلس التعاون الخليجي المنعقد يوم الأحد، صعوبة في كشف لعبة صالح الجديدة، فرغم أن قرار تفويض صالح لنائبه بالحوار مع المشترك قد أرسل -قبل يوم من صدوره- إلى أمين عام مجلس التعاون الدكتور/ عبداللطيف الزياني، إلا أن البيان الصادر عن اجتماع المجلس الوزاري خلا من أي إشارة إلى هذا التفويض العبثي، وهو تصرف خليجي تضمن دلالة واضحة على مدى ما بات يتمتع به صالح من انكشاف لدى الخليجيين، بصورة تستوجب الحرص في التعاطي مع كل ما يأتي منه.
كان لابد لقرار صالح أن يجني متواليات التجاهل والاستخفاف من قبل الخليجيين على طريقة (التعامل بالمثل(.
لقد أراد الرجل –بإرساله للتفويض قبل الاجتماع الخليجي- أن يحول مجلس التعاون إلى دمية لا تبرع سوى في إضفاء الطابع الإقليمي على ألاعيبه ومناوراته اليائسة.
بالنسبة للخليجيين، لم يكن قرار التفويض مناورة بائسة فحسب، لقد جسد أيضاً استفزازاً سافراً ومحاولة للتلاعب بمجلسهم واستغلال مبادرتهم (مرة أخرى) لتمرير غاياته وأهدافه الخاصة.
لم يسمح المجلس الوزاري الخليجي بأن يتعرض –هذه المرة- للدغات صالحية كتلك التي لحقت به إبان مسرحية التعديلات العبثية والمزاجية التي طالت المبادرة الخليجية.
فالخليجيون يدركون أن أي تجاوب مع دراما الخداع الصالحية التي استعادت قدرتها على الإنتاج مجدداً، سيؤدي إلى أمرين، الأول: الإمعان في تعقيد الوضع وتأزيم الموقف، والثاني: إلحاق مزيد من التشويه بدول المجلس لدى الشعب اليمني.
ثنائية التشويه والتعقيد لا تعد بالطبع تبريراً وحيداً، فالتفويض الرئاسي –من حيث المبدأ- يشكل رفضاً صالحياً جديداً للمبادرة الخليجية ومحاولة للالتفاف عليها، فهو –أي التفويض- لا يشكل نقلاً للسلطة حسب ما تنص عليه المبادرة، كما أنه لا يجسد تفويضاً كاملاً للسلطات والصلاحيات، إذ لازال صالح محتفظاً بكل السلطات الدستورية بما في ذلك إقالة النائب نفسه، ولم يتنازل لهذا الأخير سوى عن صلاحية الحوار والتوقيع على المبادرة فقط.
لهذا ستظل المبادرة في ثلاجة التجميد:
حين أخذ الجدل يتصاعد بين جناحي الاعتدال والتطرف فيما تبقى من حزب المؤتمر الشعبي، كان واضحاً أن صالح يعد العدة للعبة جديدة من ألاعيبه المكشوفة سلفاً، فالمؤتمر –أو بالأحرى ما تبقى منه- لم يكن هو العائق والحائل دون تنفيذ المبادرة، بدليل أن ممثليه رسموا إمضاءاتهم على نسخة المبادرة بجوار إمضاءات ممثلي المشترك.
صالح وأسرته، كانا ومازالا يجسدان العائق الذي يحول دون خروج هذه المبادرة إلى حيز التنفيذ العملي، وبالتالي فمادام هذا العائق ماثلاً، ستظل المبادرة في ثلاجة التجميد، ولن تبارحها مطلقاً إلا إذا رضخ صالح لدعوات المجتمع الدولي واضعاً إمضاءه العريض عليها.
مراجعات خارجية عبثية:
ممارسة الضغوط على المشترك، حدث يبدو متوقعاً من جانب الأميركان والأوروبيين، فرغم أنهم يدركون سلفاً استحالة قبول المشترك وشركائه بحوار حول قرار التفويض المثير للسخرية، إلا أن ذلك لن يمنع قيامهم –كالمعتاد- بفاصل من المراجعات العبثية الغير مجدية.
في الواقع، لم يعد قرار الحوار والتسوية منحصراً في اللقاء المشترك كتكتل حزبي فحسب، لقد أضحى القرار مرتبطاً بموافقة وإقرار المجلس الوطني لقوى الثورة السلمية، باعتباره القيادة السياسية للفعل الثوري.
في أروقة المجلس وأجندته الراهنة، لا حضور سوى لخيارات التصعيد السلمية وممكنات الحسم الثوري، وهو ما يعني استحالة الشروع في بحث أي خيارات حوارية أو تفاوضية سوى في حالة واحدة ألا وهي تنحي صالح والانتقال الفعلي للسلطة وتحول عبدربه منصور هادي إلى رئيس للجمهورية اليمنية.
التلويح بمجلس الأمن ليس كافياً:
وفق راهن المعطيات، يبدو المجتمع الدولي مطالباً برفع درجات الحزم والصرامة في التعاطي مع صالح وبقايا نظامه وذلك للحيلولة دون انزلاق البلاد إلى أتون الحرب.
التلويح بمجلس الأمن وعقوبات الفصل السابع من الميثاق الأممي، لا يبدو ضغطاً كافياً لإثناء هذا النظام عن غيه واحتواء رغبته الجامحة ونزعته الطافقة للصدام والمواجهة.
هنا يتعين على المجتمع الدولي تحويل ذلك التلويح إلى أمر واقع عبر إعادة فتح ملف اليمن في مجلس الأمن الدولي بموازاة ممارسة ضغوط على السعوديين وإلزامهم بتنفيذ أي قرارات أممية تتغيا فرض عقوبات على بقايا النظام الصالحي.
ثمة معطيات تشير إلى أن جرعات التخدير لم تعد تكتسب فعالية حقيقية في الإبقاء على الوضع الراهن، فالأذرع العسكرية للنظام لا تدخر جهداً في التسليح والتدريع بالتزامن مع استفزازاتها المنهجية للقوى العسكرية الموالية للثورة، كما أن تطلعات الحسم أخذت تكتسب حضوراً استثنائياً لدى مختلف قوى وتكوينات الثورة المجيدة، وهو ما يعني تراجع الخيارات الحوارية بموازاة دنو المشهد من نهاية افتراضية تبدو وشيكة.
وماذا بعد؟
قبل حادثة النهدين كتبت تحت مانشيت (علي عبدالله صالح.. الذكاء المدمر) قائلاً: ذكاء صالح يبدو من النوع المدمر، الذي يأنف الانحناء للموجات ويرفض التنازل عن ما يراها مكاسب مشروعة حققها هذا الذكاء.
ومضيت جازماً: ذكاء الرجل سيؤدي إلى الدمار، اعتقاداً منه بأن هذا الدمار لن يطاله فقط، بل سيطال الآخرين أيضاً (هدم المعبد على رؤوس الجميع).
واستطردت بالقول: إن نهج التدمير قد يؤذي الشعب فعلاً، لكنه بالمقابل سيحطم الحاكم تماماً، إذ مهما بلغ ذكائه اتقاداً، فلن يدمر في النهاية إلا صاحبه.
كاد ذكاء صالح وخداعه أن يدمره بالفعل في حادثة النهدين، ولولا تقديرات القضاء والقدر لكان صالح الآن نزيلاً في عالم الأرواح وحياة البرزخ.
لقد عاد الرجل من بين النيران وكأنه لم يتعلم شيئاً، فهاهو يقع في ذات الأخطاء مجدداً، وهاهو يتشبث ويرفض الرضوخ لإرادة الشعب والمجتمع الدولي، وهاهو يمضي بالبلاد إلى أتون الاحتراب، مستخدماً ذكاءه أو بالأحرى (تذاكيه) لإعادة إنتاج ذات الحيل والأكاذيب والألاعيب التي لم تعد تنطلي على أحد.
وبما أن الرجل يمضي في ذات الطريق مستخدماً النهج والأسلوب ذاته، فإن ظهور نهاية تدميرية مشابهة يبدو احتمالاً وارداً، غير أنها هذه المرة قد تختلف قليلاً، فقد لا يطال التدمير صالحاً نفسه، لكونه أضحى نزيلاً في كنف الرعاية السعودية وبعيداً عن التفاعل الفسيولوجي مع الأحداث في البلاد، غير أنه –أي التدمير- يمكن أن يطال أهدافاً أخرى هذه المرة وهو ما يجعلنا نؤمن باقتراب النهاية الافتراضية لبقايا النظام (الأبناء) وكفى!.
× نقلاً عن المصدر أونلايــن
al_leswas@hotmail.com
حسين اللسواس
هل سيدمر صالح بقايا نظامه؟ الرئيس اليائس في مسرحية التفويض البائس 2167