إن أول عمل عام قام به نبي الله موسى –الكليم- عليه السلام هو نصرة المظلوم، في مشاجرة رآها نبي الله موسى فاستجاب للصريخ المستغيث، فأغاثه، ثم أعلن البراءة إلى الله من المجرمين، فهما: صفتان رئيسيتان يسير بهما المؤمن إلى الله تعالى، الأولى: نصرة المظلوم والقيام معه، والثانية البراءة من المجرمين وعدم مناصرتهم أو معاونتهم.
قال الله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } (15) سورة القصص، ومعنى هذا من عمل الشيطان قتل القبطي لأنه لم يكن مأموراً بقتله آن ذاك، {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (16) سورة القصص، فلما غفر الله له ذلك، اتخذ موقفاً أساسياً من الظلم والظالمين، وأعلن انحيازه الكامل للمظلومين وللحق مهما كلفه ذلك، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} (17) سورة القصص.
قال الزمخشري في الكشاف: وأراد بمظاهرة المجرمين : إما صحبة فرعون، وانتظامه في جملته، وتكثيره سواده؛ حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون، وإما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له، وعن ابن عباس : لم يستثن فابتلى به مرّة أخرى. يعنى : لم يقل : فَلَنْ أَكُونَ إن شاء اللّه، وهذا نحو قوله: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} (113) سورة هود، وعن عطاء أنّ رجلاً قال له : إنّ أخي يضرب بقلمه ولا يعدو رزقه، قال : فمن الرأس ، يعنى من يكتب له؟ (مع من هو موظف) قال : خالد بن عبداللّه القسري : قال فأين قول موسى؟ وتلا هذه الآية، وفي الحديث: «ينادي مناد يوم القيامة : أين الظلمة، وأشباه الظلمة، وأعوان الظلمة، حتى من لاق لهم دواة، أو برى لهم قلماً، فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى به في جهنم» وقيل معناه، بما أنعمت علىّ من القوّة، فلن أستعملها إلا في مظاهرة أوليائك وأهل طاعتك والإيمان بك.
قال أبو السعود: فلن أكون معيناً لمن تؤدي معاونته إلى الجرم، وقال الشعرواي: أي : عهد الله عليَّ ألاَّ أكون مُعيناً للمجرمين، قال سيد قطب: فهو عهد مطلق ألا يقف في صف المجرمين ظهيراً ومعيناً، وهو براءة من الجريمة وأهلها في كل صورة من صورها.
قال القرطبي: ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :"من مشى مع مظلوم ليعينه على مظلمته ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامة يوم تزل فيه الأقدام، ومن مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه أزل الله قدميه على الصراط يوم تدحض فيه الأقدام ] وفي الحديث :"من مشى مع ظالم فقد أجرم"، فالمشي مع الظالم لا يكون جرماً إلا إذا مشى معه ليعينه، لأنه ارتكب نهي الله تعالى في قوله سبحانه تعالى : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } المائدة{2}.
ويدخل في صور مظاهرة المجرمين ومناصرتهم كل ما من شأنه تدعيم الباطل بأية دعامة باللسان أو بالجنان، إذ واجب المؤمن النهي عن المنكر وتغييره، ومن مظاهرة المجرمين الصمت عن جرائمهم، وترك النكير عليهم، فإن من خذل الحق فقد نصر الباطل، وسكوت من يسكت على الظالمين جريمة شنعاء، وفعل ذميم، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، فلا تكن أيها القارئ الكريم من فئة الشيطان الأخرس.
إن الواجب الشرعي يتحدد في التعاون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخروج الأمة بكل طاقتها لتغيير المنكر، فتتشابك الأيادي يداً بيد، وتتضافر الجهود جهداً مع جهد، وتلتحم الجماهير في قوة السيل الجارف، والبحر المتلاطم من البشر لتقتلع الظلم، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) سورة المائدة.
إن دماء الشهداء ستخاصم الصامتين بين يدي الله عز وجل، وستقول لهم: إن صمتكم قتلنا، وتفرجكم علينا مكن الظالمين من سفك دمائنا، وإن أنات الجرحى ستقف خصمكم أيها الصامتون فلولا صمتكم الذي يستمد منه بقايا النظام القدرة على الإجرام لما جرح جريح ولا قتل شهيد، ماذا أنتم قائلون لله حين تختصمون مع آباء الشهداء وأمهاتهم، ومع أبناء الشهداء وبناتهم، ومع الزوجات الأرامل والأمهات الثكالى، لا تظنوا أنكم ستفلتون من عقاب الله، فقد أمركم الله بالتعاون على البر والتقوى، ونهاكم عن التعاون على الإثم والعدوان، وبقايا النظام تقتل وتعتدي وتظلم وتأثم وتجرم وتفسد وفي أيديكم الحل أن تخرجوا عن صمتكم، وأمر آخر لا تأمنوا أن تعاقبوا في الدنيا قبل الآخرة.
وهذه كلمات للمتدينين ممن يصمتون ولم ينضموا بعد للثورة إحقاقاً للحق، وإبطالاً للباطل، يقول ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين: ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبما كان عليه هو وأصحابه، رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين، هم أقل الناس ديناً، والله المستعان، وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك "تسفك الدماء ويقتل الناس بعد الصلاة ويحرق المعاقين"، وحدوده تضاع "الشريعة معطلة تماماً والقضاء ظالم"، ودينه يترك، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرغب عنها "قالوا: علي صالح نبي في تعدي واضح على مقام النبوة"، وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين، وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل، وتبذل، وجد، واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله، ومقت الله لهم، قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون، وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل. وقد ذكر الإمام أحمد وغيره: أثرا أن الله سبحانه أوحى إلى ملك من الملائكة أن اخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب، كيف وفيهم فلان العابد. فقال به: فابدأ به، فإنه لم يتمعر وجهه (غضباً لله) يوماً قط، وذكر أبو عمر في كتاب التمهيد: أن الله سبحانه أوحى إلى نبي من أنبيائه؛ أن قل لفلان الزاهد: أما زهدك في الدنيا، فقد تعجلت به الراحة، وأما انقطاعك إلي فقد اكتسبت به العز، ولكن ماذا عملت فيما لي عليك، فقال: يا رب، وأي شيء لك علي، قال: هل واليت في ولياً، أو عاديت في عدواً.
mahamad_hawr@yahoo.com
د. محمد عبدالله الحاوري
ظهيراً للمجرمين 3244