بداية نهنئ كل عريس وعروس يتزوجان هذه الأيام المباركة، ونهنئ المجتمع بأسرة جديدة تنضم إلى لبنات بنائه السامق الرفيع، ونهنئ الحياة بميلاد فضاء جديد لقلبين حبيبين هو فضاء الطهر والزواج، الذي جعله الله تعالى آية عظيمة، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (21) سورة الروم.
وأقتطف هذه المقالة من مدخل كتاب لي بعنوان [أكاديمية الأفراح للأعراس اليمنية الإنشاد ومتطلباته، والبرع: أشخاصه وآلاته، والزامل والحال] حاولت فيه أن ألامس الموضوع وأشير إليه، وأفتح كوة للنور في دراسته، وهي مناسبة أن أدعو الباحثين لمواصلة المشوار والاهتمام بتراثنا الشعبي الجميل.
إنني أعتبر عيني عدسة فيديو تصور ما تراه، وأذني مسجل كاسيت تحتفظ بما تسمعه، قدر الاستطاعة في كل ذلك، ثم أسلِّم ذلك إلى القلم ليعبر عنه، ويحاول بكل ما في وسعه لإسعادكم سيدي القارئ الكريم، وقد اقتصرت في روايتي لهذه العادات (في الكتاب) على ما التقطته الذاكرة، أو رصدته العين، أو الأذن، أو عشته في واقع الحياة، وما رأيته من تغيرات، واستخدام أدوات الملاحظة والمقابلة لأناس من مختلف الشرائح العمرية.
أقول: حضرت عرساً لأحد الجيران، وحضر الإنشاد منشد رائع حرك الشجون، وجعلني استعير لغة علي بن الجهم "بعث الكتابة من حيث أدري ولا أدري" إن صح التعبير.
وأخذتني الأفكار والخواطر، وسبَحت في بحر الروايات حتى شبعت، وأخذت شلالا معنويا غير عادي، شلالٌ تتراقص فيه الأفكار كتراقص الألحان، التي تتقافز في خفة المنشد، وجمال النشيد، وروعة الإنشاد، وحيوية المرددين، وأصبحت بروح عصفور، وفي عنفوان الطائر الحر المحلق في الآفاق الرحيبة.
وأخذَت المشاهد تتلاحق، وتتداخل، وتتمواج كأنها زرع أخضر غض، تحركه رياح النسيم العليل؛ فيتمايل طربا كخصلات شعر جميل، وارتسمت لوحات ابتهاج واسعة الأرجاء، مزدانة بالتفاصيل الكثيرة، والحركات الأثيرة، يختلط فيها البرع بالنشيد وبالزغاريد وترديدات المنشدين، وحبور الحضور، في لوحة استعراضية شريط ابتهاجها يتردد ويتكرر ويسرع ويعود في تجدد بديع.
وإذا بالمواقف الروائية تسير في صف طويل، تُمثِّل نفسها أمام ناظرَي، وأنا أرى الشباب يزفون العريس بأهازيج اللحن الصنعاني، ومقطوعات من اللحن التهامي، ومداخلات اللحن الحضرمي، ووصلات من النشيد اللحجي البديع، وتحولت اللحظة التي أعيشها في لحظة العرس إلى نقطة جامعة، تمثل محور ارتكاز، وبؤرة اجتماع، للفرح والابتهاج، حول العرس والعريس.
أقول: الصواب لغةً العروس؛ لأنه من الألفاظ التي يستوي فيها المذكر والمؤنث، يقال: رجل غضوب، وامرأة غضوب، ورجل شكور، وامرأة شكور، ورجل عروس، وامرأة عروس، ولكن درجت العادة في اللهجة العامية أن تسمِّي الرجلَ عريسا، والمرأة عروسا، وفي صنعاء يسمى الرجل حريو، بفتح الحاء وكسر الراء وسكون الياء والواو، والمرأة حريوه ـ بفتح الحاء وكسر الراء وسكون الواو ـ والجمع في الرجال حراوه، وفي النساء حراوي، ويقال عن الرجل وعروسته حراوه أيضا. قال الشاعر الشعبي:
ما أحلى صبوح الحراوه ياليت من هو حريو
تُنطَق مَحْلا ، أي ما أحلا. والصبوح: طعام الإفطار. وقد تلفظ يا ليت: يا ريت، تستبدل اللام بالراء.
ويرى الأخ الزميل الدكتور الأديب الشاعر إبراهيم أبو طالب أن كلمة حريو من اللغة اليمنية القديمة، وأن بقايا وزنها موجودة في أسماء بعض المناطق والقرى، ويذكر قصة طريفة تستحق الرواية تتعلق بالبيت السابق، قال رعاه الله: إن إذاعة صنعاء أوردت هذا البيت الشعري على مدى شهرين مطالبة الشعراء بأن يضموا إليه بيتا آخر، على نفس الروِي، فلم يصنع أحد منهم رديفا له، حتى صنع جده الشاعر اللغوي الأديب عبد الرحمن أبو طالب بيتا آخر هو:
يذوق طعم الحلاوة وبِنّ وادي شَزِيْو
ووادي شَزِيو واد خصيب في مخلاف عانـز في الحيمة الخارجية.
وأخيراً: لقد أذهلتني التغيرات التي حدثت في زمن قصير لا يتجاوز خمسة وعشرين عاماً، فمثلا: كان الناس يميزون الضيف أي يقدرونه بالقيام من أماكنهم له، واليوم يتركونه وحيداً، كان الضيف إذا دخل قام عدة أشخاص من أماكنهم ليجلس فيها، وفي بعض المناطق يقوم الجالسون للضيف ليجلس مكان من أحب.
واليوم يجلس الناس في بعض المناطق من أسفل الديوان، حيث لن يقوم أحد لأحد، ويتركون صدره وأعلاه حتى لا يقومون للضيف، ومن وصل من الضيوف يُرشد إلى الذهاب إلى رأس الديون، ونتيجة لذلك صار الضيف يجلس منفرداً، وأهل القرية في نهاية الديوان وحدهم، وهكذا خسر المجتمع التآلف الذي كان يعيشه حين يندمج الناس بضيوفهم، ويجلسون في كتلة واحدة لا تعرف مصطلح رأس الديوان.
وكان الناس ينشدون في حلقة كبيرة تمتد امتداداً واسعاً، يتراصون فيها جوار بعض، وينتظمون في صورة جذابة وفعالة، كأنهم حبات عقد لؤلؤ واسطته العريس، واليوم يتركون المنشد يردد وحده، ولا يقف معه غير حفنة صغيرة من الأطفال، يجتمعون حوله، والأغلب يتناثرون هنا وهناك بعيداً عن حلقة الإنشاد.
ومسألة ثالثة تدعو للأسف كيف دخَلت ألاعيب التباهي، وعبثيات المباهاة بهذه الصورة الصارخة في حياة الناس، وكيف تعقدت أمور الأفراح بحيث صارت عبئاً ثقيلاً، يورث الهمّ والغم، ويسبب المتاعب المادية فيما لا طائل تحته.
إن التباهي والنـزعة الاستهلاكية آفة خطيرة دمرت الحياة، إنها مرض العصر الذي يطغى على الحياة فيحولها إلى مجموعة من الشكليات والعبث بالمال والتضييع للثروة فيما لا جدوى منه، لو كانت النية معه سليمة فكيف لو كان فيها نية التفاخر والاستعلاء الأجوف على الآخرين، والتكبر على العباد، ونسينا حديث رسول الله r الذي يقول فيه: "من ترك اللباس تواضعاً لله، وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسه" حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
للتواصل: mahamad_hawr@yahoo.com
د. محمد عبدالله الحاوري
تهانينا بالأفراح لكل العرسان 2335