من يريد أن يعرف معنى الإيجابية وحقيقتها فعليه أن ينظر في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته فسيرى العجب العجاب، الرجل الواحد الذي أوذي في الله عز وجل في وقت لا يؤذى فيه أحد من الناس في الله غيره، أزاح الظلام كله، رجل واحد أضاء العالم وقضى على الجاهلية، وأزل الظلم، وقمع الظالمين وأنصف المظلومين، وحارب المعتدين، وانتصر للمستضعفين، رجل واحد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتأمل كيف أرهق الرجل الواحد صلى الله عليه وآله وسلم الجاهلية، حتى لم يكن لهم حديث غيره، يحدثون أنفسهم بأمره، وهم فرادى في خلوتهم مع أنفسهم، وهما اثنان منفردين في الصباح الباكر، يشغلهم أمره، وينشغلون به، وهم جم غفير في مؤتمر قريش، يجتمعون لمناقشة أمره.
إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو رمز الإيجابية الكاملة، والجهاد المتواصل، والدعوة البليغة، والحكمة البالغة؛ فتأمل في سيرته كيف بنى صرح الإسلام، تجد أنه في كل يوم كان يرتفع البناء سامقا في السماء، لا تتوقف عجلة الدعوة لحظة، ولا تتوانى مسيرة الإنجازات العظيمة برهة من الزمن، كيف كان يهدي بالحق إلى الحق سادتهم، ورجال الاقتصاد والمال، وسيدات المجتمع، ودهاة السياسة، وأبطال الحرب.
إن كل لحظة والمشهد يطبق على كفار قريش، وبقايا نظام الجاهلية، ويشتد الخناق عليهم، لم يكن سهلا على الجاهلية أن تفقد أشخاصا في حجم أبي بكر وعلي وعثمان وحمزة وعمر ومصعب بن عمير وخديجة بنت خويلد ورملة بنت أبي سفيان وغيرهم كثيرون y وأرضاهم.
لقد حطم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجاهلية، وأمات أمرها، وهدم بنيانها، وأنزل بها الويلات،كانت أنباء خسارتها تلاحقها كل لحظة من إسلام شخص، أو نزول قرآن، أو جهر بالدعوة، أو ظهور للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في المحافل والمجاميع يدعو الناس ويبلغ عن الله، أو كسب دعوي واجتماعي هنا وهناك، حتى أعلن نبأ دفن أمرها تحت قدميه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع: "ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع" رواه مسلم.
وتأمل هذه النقطة العظيمة ـ وكل لحظة من حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ عظيمة، كيف استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحجم عداوة قريش في أشخاص معدودين من ملأ مكة، نستطيع أن نحصي رؤساءهم فلا يتجاوزون خمسة وعشرين اسما، كيف استطاع أن يحد من عداوة المجتمع من جهة، وأن يحفظ روابطه مع عشيرته بني هاشم من جهة أخرى، حتى إنهم لينضموا معه في شعب أبي طالب، وكيف أن الملأ من كفار قريش عجزوا عن التأثير على أبي طالب، أو على بني هاشم ( عدا أبي لهب لعنه الله) في أن يُسلِّموا لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو يخذلوه، ويتركوه؛ لتستفرد به قريش.
وتأمل كيف استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوض بنيان المجتمع الجاهلي في مكة، وأن يزيل سلطان قريش، من خلال وجود طليعة مؤمنة في المجتمع المدني، ووجود ملاذ آمن لكل مؤمن بالهجرة إلى المدينة، أو في الانضمام إلى كتيبة أبي جندل في سيف البحر، ومن خلال اللفتة النبوية الكريمة بأمر العباس بن عبد المطلب ليُرِي أبا سفيان جيش الفتح؛ ليقضي على كل أمل للمقاومة لديه، الأمر الذي جعل أبو سفيان هو الذي يحث مكة على التسليم، وعدم المقاومة.
من هنا ينبغي أن يشعر كل فرد بأهمية الدور المناط به، والمهمة الملقاة على عاتقه، وأن يثق في قدرته على القيام بها، واستطاعته على تحقيقها بنجاح واقتدار، فالدرهم على الدرهم مال، ويد مع يد ترفع الحمل الثقيل، وشمعة مع أخرى تبدد جموع الظلام، وتنشر النور البهيج، ومسافة الألف ميل تبدأ بخطوة.
ولنا أن نسأل ماذا يحدث لو نام مليار فرد سلبي يوما كاملا؟ لا شيء؛ لأن وجودهم كعدمهم، ولكن لو نام شعب كاليابان أو الصين أو أمريكا لتوقف نمو معرفي، وإنتاج صناعي، ورحلات إلى الفضاء، وتقدم علمي، واختراعات جديدة، ستتأثر الحياة والأحياء بهذا التوقف، أما مليار فرد من السلبيين فالناس والحياة لا تشعر بهم مستيقظين، فكيف لو ناموا؟!.
إن علينا الخروج من حالة الغوغائية والغثائية التي تحطِّم الحياة، وتثبط الهمم، وتميت العزائم، وتغتال في الإنسان روح الإنسان، كثرة بلا معنى غير همِّ المأكل والمنكح والملبس، لا يُهاب لهم جانب، ولا يُخشى لهم غضب، ولا تراعى لهم حرمة، قصعة تمتد إليهم الأيادي، تأكلهم الأمم، وتنهشهم النائبات، وتعضهم صروف الدهر، ولا بواكي لهم، كالأيتام على مائدة اللئام؛ لسلبيتهم المخجلة، عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل: يا رسول الله! فمن قلة يومئذ؟ قال: لا، و لكنكم غثاء، كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم، و ينزع الرعب من قلوب عدوكم؛ لحبكم الدنيا، وكراهيتكم الموت" رواه أبو داود.
والهمة العالية هي وقود الإيجابية الذي تسير به، وشارتها، التي تعرف بها، وهي أول مواصفات الرجولة، وأساس صفات النجابة، ولا تكون الإيجابية إلا بها، قال آنوشروان: لي همة لو غرقت الدنيا فيها ما طلبت إلا بالغاصة، ولو كانت الليل ما تنفس فيها الصبح.
همة تقود صاحبها إلى المعالي، وأسمى المنازل، وأرفع الدرجات، وتبلغ به الغاية، أتى دكينٌ الشاعر عمر بن عبد العزيز رحمه الله، بعد ما استخلف، يستنجز وعداً كان وعده إياه، قال: فقال لي: يا دكين، إن الله وضع بين جنبي نفساً نزاعة إلى معالي الأمور، نزعت إلى إمارة المدينة فرزقتها. ونزعت إلى إمارة الحجاز فنالتها، فنزعت إلى الخلافة فلما حظيت بها؛ قالت: هي الفوز بالدنيا كلها، فتاقت إلى الآخرة، وترقت بهمتها إلى الجنة، وما رزأت من أموال المسلمين شيئاً، وما عندي إلا ألفا درهم، فأعطاني ألفاً. وقال: خذها، بارك الله لك فيها. فابتعت بها إبلاً، وسقتها إلى البادية، فرمى الله في أذنابها بالبركة، ورزقني ما ترون.
يقول عنترة الفوارس:
حاربيـني يا نائباتِ اللَّيـالي عنْ يميني وتارة ً عن شمالي
واجْهَدي في عَداوَتي وعِنادي أنتِ والله لم تُلِمِّـي ببالي
إنَّ لي همة ً أشدُّ من الصخـ ـر وأقْوى منْ راسياتِ الجبال
وتأمل قول لقيط بن زرارة التميمي:
قد عشت في الناس أطواراً على خلقٍ شتّى وقاسيت فيها اللّين والقطعا
كلاًّ لبســت فلا النّعماء تبطرني ولا تخشّعت من لأوائـها جزعا
لا يملأ الهـول صدري قبل وقعته ولا أضـيق به ذرعـاً إذا وقعا
ما سـدّ لي مطلعٌ ضــاقت ثنيّته إلاّ وجدت وراء الضّيق متّسـعا
د. محمد عبدالله الحاوري
أهم مواصفات الإيجابية الاقتداء بسيد البرية صلى الله عليه وآله وسلم 2251