أحبتي في الله لقد كان شهر رمضان ميداناً يتنافس فيه المتنافسون ويتسابق فيه المتسابقون ويحسن فيه المؤمنون، تروضت فيه النفوس على الطاعة وتربت فيه على الفضيلة وترفعت فيه عن الخطيئة وتعالت عن الرذيلة واكتسبت فيه كل خير وهدى وتزودت فيه من الرشاد والبر والتقى وسمت فيه النفوس إلى جنة الفردوس وتطلعت فيه لرضى الملك القدوس وتعالت فيه الهمم وارتفعت وسمت فيه العزائم، فخشعت القلوب ودمعت الأعين وخضعت الجوارح وزكت النفوس وتهذبت الأخلاق:
فيا عين جودي من بالدمع من أسف ــــــــــــــــــــ على فراق ليالِ ذات أنوار
على ليال لشهر الصوم ما جعلت ــــــــــــــــــــ إلا لتمحيص آثام وأوزاري
ولنا مع ختام الشهر الكريم واستقبال العيد السعيد عدة وقفات وفوائد وعظات:
1- الوقفة الأولى [ لا تكن رمضانياً ]
أيها الأحبة: لقد اعتادت النفوس في شهر الخير والبركات وموسم المغفرة والرحمات على الإقبال على الطاعات والمسارعة في الخيرات والتنافس في سائر القربات ولكن بمجرد إعلان ليلة العيد نجد الكثير من المسلمين قد تنكبوا الطريق وضلوا السبيل وانحرفوا عن الصراط المستقيم وانفلتوا من الطاعات وانغمسوا في الملاهي والملذات وسارعوا إلى المعاصي والشهوات بل وقعوا في كبائر الإثم وعظائم الموبقات.
ولقد ذم السلف هذا الصنف من الناس وهذا النوع من الأجناس
قيل لبشر: إن قوماً يجتهدون ويتعبدون في رمضان، فقال: بئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان إن الصالح يجتهد ويتعبد السنة كلها.
وسئل الشبلي: أيهما أفضل رجب أو شعبان فقال:كن ربانياً ولا تكن شعبانياً.
فيا أخي الحبيب: لازم طاعة الله عز وجل على الدوام فرب شعبان ورمضان هو رب الشهور كلها فليس لعموم الطاعة زمن محدد وليس للتقوى موسم مخصص، فعمل العبد لا ينتهي بموسم ولا ينقضي عن مناسبة بل العبد مأمور بالعمل حتى الممات.وعن علقمة قال: قلت لعائشة: هل كان رسول الله عليه وسلم يختص شيئاً من الأيام.
قالت: لا.. بل كان عمله ديمة )
فكان صلى الله عليه وسلم يستمر في العمل الصالح ويداوم على العبادة ويواظب على الطاعةومن علامة توفيق الله عز وجل وقبوله العمل أن يتبع الحسنة بعد الحسنة ويوفقه على المواظبة على فعل الخير ولزوم طريق الأستقامة وطريق الهداية.
وما يفعله الكثير من المسلمين بعد انقضاء الشهر الكريم من التكاسل عن الطاعات وتضييع الفرائض والواجبات والتساهل في الذنوب والسيئات والانجراف والارتكاس في الموبقات فهذا كله من تبديل نعمة الله كفراً وفاعله كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً وكمن يبني قصراً ويهد مصراً.
2- الوقفة الثانية [ المؤمن بين الخوف والرجاء ]:
يقول الحافظ ابن رجب في اللطائف ( لقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده وإبطاله.
قال علي رضي الله عنه: كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول (إنما يتقبل الله من المتقين) وعن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل منى مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها، لأنه يقول ( إنما يتقبل الله من المتقين ) ومن بلغ مرتبة المتقين حتى يكون من المقبولين.
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: أدر كتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم يرد )
وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من رمضان: باليت شعري من المقبول فنهنيه ومن المحروم فنعزيه.
ولكن على المسلم أن يحسن ظنه بربه وأنه غفور رحيم، جواد، كريم، يقبل اليسير فيسير العبد في طريقه الى الله عزوجل بالخوف والرجاء كجناحي الطائر، متاسياً في ذلك بهدي الأنبياء وطريقة الأولياء.قال صلى الله عليه وسلم ( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله )
3- الوقفة الثالثة [ عرفت فالزم ]:
أخي الحبيب: عرفت أثر العبادة وذقت طعم الإيمان وحلاوة الطاعة ولذة المناجاة فعليك أن تحافظ على هذه المكاسب وتلك المنجزات فتحرص على الطاعة وتقبل على العبادة وتلزم الطريق المستقيم والهدي القويم.
ورؤوس الأعمال التي زكت فيها النفوس ورقت القلوب ودمعت الأعين وارتفعت فيها الأكف من الصيام والقيام والصدقة والإحسان والذكر والتلاوة والدعاء والالتجاء ليست مقتصرة على رمضان وليست مختصة بشهر الصيام بل من الإعمال والعبادات والقرب والطاعات ما سبب لتضعيف الحسنات وتكفير السيئات ورفع الدرجات ولكننا عنها غافلون وفيها مفرطون، فالصلوات الخمس كفارة لما بينهما وكذا الجمعة إلى الجمعة وإذا كان رمضان هو شهر الدعاء ففي الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه الله إياه.
4- الوقفة الرابعة [ صيام الست ]"
لا بد للعبد في طريقه الى الله عز وجل من تقصير في الاستقامة ومن نقص في الطاعة وخلل في الهداية ولهذا قال الله تعالى ( فاستقيموا إليه واستغفروه ) فيجبر التقصير بالاستغفار ويسد الخلل بالتوبة والأوبة ويكمل النقص بنوافل العبادات كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أول ما يحاسب به العبد من عمله الصلاة فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله كذلك ).
ومن النوافل التي حث عليها الشارع ورغب فيها وأرشد على القيام بها صيام ست من شوال فعن أبي أيوب الأنصاري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله).
فاتقوا الله أيها الأخوة وجدوا في العمل واعتبروا بما سلف فالفرص تفوت والأجل موقوت والإقامة محدودة والأيام معدودة.
رمزي المضرحي
ماذا بعد رمضان...؟ 2543