بعد كارثة الجفاف والمجاعة في منطقة القرن الأفريقي أو ما يعرف حالياً بمثلث الجوع، حيث يواجه واحد من أصل عشرة أفراد خطر الجوع حتى الموت، ربما حان الوقت للتفكير من جديد في استعادة مبتكرة واهتمام جاد في قضية بلورة ورسم السياسات الإنمائية التي تتطلب أعادة النظر في تقويم منطلقاتها وهياكلها والياتها والتي لم توفر العدالة في توزيع الثروة والدخل ، لا على مستوى الأفراد ولا على مستوى الجماعات والمناطق في معظم محافظات الجمهورية اليمنية التي تتشابه نسبياً في اقتصادها مع اقتصاديات بلدان الكارثة في بعض الملامح والسمات والخصائص العامة ، فعلى سبيل المثال ، كانت هذه الدول كما هو حال اليمن مكتفيه إلى حد ما من معظم محاصيل الغذاء الأساسية.
وتفيد المصادر أن اليمن كان يصدر إلى البلدان المجاورة مالا يقل عن 10 أطنان من الذرة في سنوات المحاصيل الجيدة، وتحولت إلى وعاء غير قادر على تلبية احتياجات السكان ، وزادت الفجوة الغذائية إلى الحد الذي لم تستطع معه الوفاء بمواردها المالية المتاحة من توفير حاجات سكانها.
يضاعف من ضرورة هذا الاهتمام حيثيات ثلاث لزم الإشارة إليها في ظل وضع راهن له تداعيات خطرة على حاجات السكان إذا لم يتم تداركها.
أولى هذه الحيثيات: تصاعد ظروف وحالات الفقر والتصحر والأوبئة في أنحاء متفرقة من اليمن البلد الأفقر في الشرق الأوسط ، حيث قدر أن أكثر من (7) ملايين شخص لا يملكون ما يكفي من الطعام اليومي.
(وتفيد معطيات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي) أن 35% من السكان يعانون من الفقر وسوء التغذية، حيث واحد من كل ثلاثة أشخاص يعانون من الجوع المزمن ، كما أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية قد يدفع بحوالي 6% من السكان إلى حافة الفقر.
تتبدى ثانية هذه الحيثيات، في موقف اللامبالاة من جانب القائمين على إدارة الموارد الطبيعية ، وعلى وجهه الخصوص ( الأراضي الزراعية والمياه) التي تمثل مصدر الحاجات الأساسية ، حين تنظر إلى هذه الموارد كما لو أنها معين لا ينضب مما شجع التبذير في استغلالها بشكل جائر قد يتسبب في كوارث حقيقية مفزعة على مدى العقد القادم.
فالقطاع الزراعي يحتل مكانة هامة في اقتصاد اليمن، حيث يعيش الجزء الأكبر من السكان في الريف ( 85%) ويشكل الفلاحون ولعمال الزراعيون الجزء الأكثر من القوى العاملة في البلد ومازال حتى الآن الإنتاج الزراعي بشقيه الحيواني والنباتي هو الإنتاج المادي الرئيسي ، وهو يشكل مصدراً هاماً لتوفير حاجات السكان من الغذاء.
ولا يختلف اثنان على أن إنتاجية هذا القطاع ما تزال تعتمد على العوامل الطبيعية، ولاسيما هطول الأمطار التي تشير التقارير الإحصائية إلى أن منسوب هطولها يتراجع عاماً بعد عام وقد يصل إلى حالة حرجة جداً، تتكرر معها حالة الجفاف والمجاعة التي حدثت في منطقة تهامة في نهاية الستينات، وتساقط المئات موتى من الجوع وخاصة في محافظة الحديدة.
أما الحيثية الثالثة، فتجد تعبيراتها في غلبة مفردات الصراع السياسي على الحكم راهناً مقابل غياب ملحوظ لأجندة مواجهة فائض الجوع القادم من القرن الإفريقي ومن الداخل اليمني جراء تراجع قدرات الدولة السياسية والاقتصادية والأمنية، حيث تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من (75) إلف نازح ومشرد في م/أبين يعانون شظف العيش ومثلهم في كل من م/صعدة والجوف ، وأعداد أخرى شردها الجفاف ، لم يعرف بعد حجمها من سكان الشريط الرملي لساحل البحر الأحمر وبحر العرب الذين يعتمدون على رعي المواشي والإبل ، تقطعت بهم سبل كسب العيش وسد الحاجة.
نلخص في ضوء ما تقدم إلى القول إن سياسة مواجهة نقص الحاجة وتحديداً الحاجة الفسيولوجية للأفراد ( الطعام والمأوى والملبس) التي تمثل الضروريات الجوهرية للبقاء على قيد الحياة، ستظل المطلب الرئيسي على المدى المنظور البعيد.
ويتوقف نجاح هذه السياسة في تصورنا على العمل في إطار نسقين متكاملين:-
الأول : يعتمد على ما يطلق عليه في أدبيات الاقتصاد أسلوب الاعتماد على الذات ، وتشير مسيرة التاريخ المعاصر إلى نماذج عديدة لمواجهة هذه الحاجات وأبرزها برنامج "جانا سافيا" في سريلانكا وبنك جرامين في بنجلادش .
وهناك نماذج عديدة في دول المحيط الإقليمي اتبعت آليات مرنة، واتخذت إشكالاً متنوعة (المصارف الخاصة بالفقراء ، الجمعيات التعاونية .... ) عملت جميعها نحو التخفيف من الفقر.
الآخر: يعتمد على مكافحة الفقر والبطالة بالحافز الديني، وتفعيل نظام الوقف الإسلامي، فقد كافح الإسلام الحاجة والعوز بالأمر بالإنفاق والنهي عن جمع المال كما في قوله تعالى (وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).
ونعتقد بأن الإنفاق لا يقتصر على إيتاء الزكاة والصدقات كما يفهمه البعض -مع تأكيدنا على أهميه ذلك- إلا أن هده الصيغة ليست الوحيدة في نشر الثروة واتساع دائرتها إلى جميع أفراد المجتمع، المطلوب أن نقدم صيغاً مبتكرة في التعبئة بإزاء المتطلبات اليومية للفقراء تتجاوز المعتاد ؛ وتتخطى السائد والمألوف وعن مكافحه البطالة، فالدولة مسؤولة عن إتاحة فرص العمل لكل قادر عليه وقد ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحد طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده)..
وعن الصحابة: فقد وقف الخليفة عمر يودع أحد نوابه على بعض أقاليم الدولة فقال له: ( ماذا تفعل لو جاءك سارق؟ قال: أقطع يده ، قال عمر : وإذن فإن جاءني جائع أو عاطل، فسوف يقطع عمر يدك) ويعد نظام الوقف الإسلامي من الأمثلة الدالة على قيامه في زيادة فرص التعاون وسد الحاجات الاجتماعية المتزايدة، التي ما عادت الدولة تستطيع الوفاء بها بمفردها وهو ما دعا إلى توسيع مجالاته ( وقف أرض زراعية، نقود، مبان ، منقولات ...) .
ما أحرانا أن نتلمس مثل هذه النماذج والاستفادة من قيمها وتقاليدها لتكون معيناً لسد حاجات السكان الضرورية وردم الهوة بين فائض الفقر والوفرة، فهل من سبيل إليها؟ تلك مهمة أصحاب رؤوس الأموال الفردية.
* المعهد الوطني للعلوم ألإداريه –عدن
Dr.gofori@hotmil.Com
د. جمال عبدالغفور محمد
حاجات السكان بين فائض الفقر والوفرة 2021