انصرمت أيام الشهر الفضيل ولياليه، فنسأل الله فيه القبول، وأن يجعل منازلنا بجوار الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم وأن يكرمنا بالقبول، والعتق من النيران، والفوز بالجنة والرضوان، وأن يجعلنا من أهل السعادة في الدارين، وهنا موعظة لنفسي قبل أن تكون لأخواني القراء.
جاء في حسن المواعظ: يا هذا من استدعاك وفتح منـزله، فقد أولاك لو علمت المنـزلة، قال ابن القيم: قرار اختيارنا لك واضح الخط، ولكن استخراجك للخط ضعيف. صدق والله، فمن جعل الحسنة بعشر والسيئة بواحدة، فهو يريد لك الجنة فلماذا الإصرار على طريق النار، قال الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (160) سورة الأنعام هذا حبه لك لو أقبلت عليه.
إن المؤمن قلبه لله لا يوالي إلا ربه، ولا يرتضي إلا بالله، قال الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (22) سورة المجادلة.
وجاء في المدهش لابن الجوزي: "من علم أن عندنا حسن المآب آب"، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} (29) سورة الرعد. وقال الله تعالى: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} (49) سورة ص. عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا هل من مشمر إلى الجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد، في دار سليمة، وفاكهة، وخضرة، وحبرة، ونعمة، في محلة عالية بهية" قالوا: نعم، يا رسول الله، نحن المشمرون لها، قال: "قولوا إن شاء الله" فقال القوم: إن شاء الله، رواه ابن ماجه وضعفه الألباني.
"من خاف الجزاء بما في الكتاب تاب"، قال الله تعالى: {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} (16) سورة الزمر من حذر أليم العذاب ذاب، قال الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ} (28) سورة آل عمران.
"من ذكر فعل الموت بالأب والجد جد، من تفكر في مرارة الكأس كاس"، عن شداد بن أوس: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله" رواه الترمذي، وقال هذا حديث حسن. قال: ومعنى قوله: "من دان نفسه" يقول: حاسب نفسه في الدنيا قبل أن يحاسب يوم القيامة. ويروى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتزينوا للعرض الأكبر، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على حاسب نفسه في الدنيا. ويروى عن ميمون بن مهران قال: لا يكون العبد تقيا حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه من أين مطعمه وملبسه؟
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم فجاء فتى من الأنصار رضي الله عنهم فسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله سلم ثم جلس، فقال: يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل؟ قال: أحسنهم خلقا. قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: "أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم له استعداداً قبل أن ينـزل بهم، أولئك من الأكياس" رواه الحاكم وصححه وقال الذهبي صحيح، وفي المعجم الصغير للطبراني بزيادة: "ذهبوا بشرف الدنيا، وكرامة الآخرة".
وقال ابن الجوزي في المدهش أيضاً: ابك على ظلام قلبك يضيء، إذا بكت السحاب إلى الربى تنسمت، يا هذا تسمع بالكيمياء، وما رأيته صح قط، اجمع عقاقير التوبة في بوتقة العزم، وأوقد تحتها نار الأسى على ما سلف؛ فإن تصعد منها نفس أسف صار نحاس نحوسك ذهباً.
ويحك دع محبة الدنيا، فعابر السبيل لا يتوطن، واعجبا تضيع منك حبة فتبكي، وقد ضاع عمرك وأنت تضحك، تستوفي مكيال هواك، وتطفف في كيل صلاتك {أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ} (95) سورة هود. تقف ببدنك في المحراب، ووجهك ملتفت للجراب، غدا توبخ، وقت عرض ألواح {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} (37) سورة فاطر. بضاعتك أيام عمرك، وقد انتهبها قطاع الطريق، ورجعت إلى بيت الأسف بأعدال فارغة، فانظر لعله تخلف فيها شيء تعامل به، فبقية عمر المؤمن لا قيمة له. كان فضالة بن صيفي كثير البكاء، فدخل عليه رجل وهو يبكي، فقال لزوجته: ما شأنه؟ قالت: زعم أنه يريد سفرا بعيدا، وماله زاد .
يا هذا فنى العمر في خدمة البدن، وحوائج القلب كلها واقفة، انـهض إلى التلافي قبل التلف، الكلف يداوى قبل أن يصير بهقاً، والبهق يلاطف قبل أن يعود برصاً، أما سمعت في بداية الزلل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (201) سورة الأعراف. وفي وسطه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (14) سورة المطففين وفي آخره: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (24) سورة محمد.
قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: الغالبُ بالظلم مغلوب، والحجَر المغصوبُ بالدار رهن بخرابها، بقيةُ عمر المؤمن لا ثَمن لها، يدرك بها ما أفات ويُحْيي ما أمات. الدنيا بالأموال، والآخرة بالأعمال. لا ترجونّ إلا ربك، ولا تخافنّ إلا ذنبك، وجهوا آمالكم إلى من تحبه قلوبكم، الناس من خوف الذل في ذل، من أيقن بالخلف جاد بالعطية. يا بيضاء ابيضي، ويا صفراء اصفري، وغرّا غيري. الصبر مطيةٌ لا تكبو، وسيفٌ لا ينبو.
جاء في حلية الأولياء لأبي نعيم: قال أحمد بن عاصم الأنطاكي: أنفع اليقين ما عظم في عينك ما به قد أيقنت، وصغر في عينك ما دون ذلك، وأثبت الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال منك الحزن على ما قد فات، وألزمك الفكر في بقية عمرك، وخاتمة أمرك، وأنفع الرجاء ما سهل عليك العمل لإدراك ما ترجو، وألزم الحق إنصافك الناس من نفسك، وقبولك الحق ممن هو دونك. وأنفع الصدق أن تقر لله بعيوب نفسك، وأنفع الإخلاص ما نفى عنك الريا والتزين، وأنفع الحياء أن تستحي أن تسأله ما تحب، وتأتي ما يكره، وأنفع الشكر أن تعرف منه ما ستر عليك من مساويك، فلم يُطْلِع أحداً من المخلوقين عليك.
د. محمد عبدالله الحاوري
في وداع شهر رمضان المبارك 2511