يقول المثل الشعبي "رب صدفة خير من ألف ميعاد"، كانت هذه الصدفة القدرية قد جمعتني برجل اسمه "سعيد طالب الشبواني"، من ساكني المنصورة بمحافظة عدن، حين أعياني البحث عن سكن يأوي أسرتي التي شردتها الحرب، وجدته خارجاً من المسجد، فسألته –عرضياً- هل لك أن تدلنا على من يؤجر لنا منزلاً يا طيب؟! أجابني والبشاشة تعلو محياه: نعم، هناك شقة بجانب منزلي معروضة للإيجار، سلمت عليه وعرفته بنفسي، فكان شخصاً سلساً لبقاً يجيد فن الحديث، ويشعرك من أول كلمة وكأنك تعرفه من زمان.
بدأ الرجل يسألني عن حال أبين وكيف وقعت فريسة سهلة للمسلحين، سرقنا الوقت وأنا استرسل معه في حديث ذي شجون حين مس مواجعي سؤاله عن معاناتنا في النزوح وما أوقعنا فيه سماسرة الحروب من مأزق بسبب صفقاتهم القذرة التي اختصوا بها محافظة أبين دون غيرها، لتكون مسرحاً لخلافاتهم وابتزازاتهم للخارج والداخل معاً، فكان أهلها هم الضحية والنظام وزبانيته هم الجلاد.
طلب مني الرجل العودة في اليوم التالي ليرتب لي استئجار الشقة، لكنني حين عدت إليه وجدته باسماً يخبرني بأن صاحب الشقة أعرض عن تأجيرها، فكان اليأس قد بلغ مني مبلغاً حين طالت مدة البحث عن سكن دون جدوى، بسبب تزايد طلبات النازحين للسكن، لكن الرجل أردف قائلاً: لدى أحد أقاربي سكن جيد إذا ترغب فيه؟! فكان ذلك خبراً ساراً لي، أعاد لي الأمل في الخروج من عقدة السكن الذي صار صعب المنال.
ذهبت برفقة الرجل إلى المنزل ووجدته ليس حسب المطلوب، لكنه أشبه بطوق النجاة لغارق في يم المعاناة، كان سلوك الرجل الرفيع وتلقائيته الصافية قد أزالت عني كثيراً من أهرامات الهم التي أحملها في دروب التشرد والنزوح، حاول الرجل جاهداّ أن يقنع قريبه بتخفيض الإيجار ليخفف عنا ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وسلمنا المفتاح قبل أن نسلمه المبلغ، وبعيداً عن مكاتب "العاقرين" وكان ودوداً لطيفاً المعشر وشهماً في تعامله مما يدل على أصالته ونبله.
وفي الوقت الذي شعرت فيه بالإريتاح التام لتعامل هذا الرجل الطيب معنا، في ذات الوقت شعرت بالألم حين تذكرت معاملة بعض أقربائي الذين لم يقدروا وضعي الاستثنائي وبخلوا عليّ حتى بالكلمة الطيبة، رغم أنها "صدقة" كما ورد في الحديث الشريف.
حقاً الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، ولكن بعضهم كالقصدير والحديد الصدئ و... "زمانك يعرّفك بالناس والناس تعرف زمانك".
منصور بلعيدي
زمانك يعرّفك بالناس 2474