الضمائر هنا كلها عائدة على الذات الإلهية العلية, ومنها يأنس المرء بإمدادات كثيرة تأخذ بتلابيبه نحو الخشوع والطمأنينة، إن لم يصل به الحال إلى دمعة خارجة من مآقيه أو بضع دمعة على الأقل، وهو يسمع هذه العبارة من عجوز مسنة لقيها على قارعة الطريق من غير ميعاد، بعد ما كاد يصاب بالإحباط وهو خارج من مكتب بقي يبحث فيه عن عمل قرابة عامين.
هذه العبارة أضاءت جزءاً غير يسير من الثقة والأنس بمقادير الله سبحانه، والتي قد لا يتعرف على كنه كثير منها كثير من الناس.
لا يكاد يمر بالإنسان يوم إلا فيه من هموم الحياة تنهشه وتجره يمنة ويسرة، وقد تأخذ به إلى شاطئ بعيد حيث لا أنيس ولا معين في فلسفة الحياة الدنيا المجردة مما وراء القدرات والإمكانات البشرية والبصائر المحدودة بالماديات.
والمؤمن ليس استثناء من ذلك الوضع، غير أنه في البحث عن الملاذات الآمنة يلجأ دوماً إلى مدبر الأقدار ومقلبها؛ لأنه يبرهن بلجوئه ذاك على يقينه العميق بأن الخالق محب لخلقه لا يجهدهم ولا يعنتهم، يخلق ليرزق ويملك ليمنح، ويتودد إلى عباده بالعطايا وإن أبدوا مساوئ هي في طبع البشر باب من أبواب الابتلاء.
ما يفلتك ... كريم حاشاه.
ثقة المرء برب كريم تجعله ما إن يسمع المؤمن تلك العبارة حتى تظلل نفسه معصرات من تصب عليها من أمزانها ما يغسل أدران الحياة وغبار مخالطة الماديات.
مما لا ينبغي للمرء أن يتفلسف فيه أن يزعم أنه فوق هموم الحياة فلم يعد في هذا الزمن من نبي؛ بل قد يجب الاعتراف بما يعتمل في النفس من أكدار قد تجعل الإنسان في ضيق من أمره، ولا أعني هنا التحدث عن الهموم للناس بما قد يضع من القدر أو يهمز في القَدر، ولكن المكابرة التي تزيد من تعقيد في غير طائل يقرب من الحل، وقد يقال الاعتراف بالداء أول العلاج.
ليجلس الواحد إلى نفسه بمنأى عن العيون ثم ليسألها عن أصل الحكاية وقصة البداية، هل أتى علي حين من الدهر لم أكن فيه شيئاً مذكوراً؟ ثم تدحرجت نطفة أمشاجا غير مخلقة، ثم كنت سميعاً بصيراً؟ من الهادي في كل ذلك؟ من الرازق في كل ذلك؟ من المعطي في كل ذلك؟ أليس الله الكبير المتعال، ذو العزة والجلال؟.
ولكن قد يأتي هنا سؤال مفاده إن الله يعطي من لا يملك من أمر نفسه شيئاً، ولكنه أناط الأسباب بالمسببات، ولم يجعل الأرزاق معقولة بالمعجزات؟
فنقول هذا كلام صحيح المبنى ولكن من حيث معناه يحتاج إلى تأمل؛ فالله لم يجعل الرزق تابعاً حتماً للسبب، كما لم يجعل تحصيله بفضل القرَب، وإنما كان ابتلاؤه باستكمال الأسباب وتحسينها، وبجعله التوكل زمامها، فمن بذل السبب من غير توكل تام قد يتحصل على ما يروم ناقصاً، والكافر توكله انتظاره.
فالمؤمن مأجور بتوكله وهو مصاب بإحدى الحسنين، وغير المؤمن أعياه الانتظار وإن أصابه ما تسبب له بعد.
ومن هنا فأنت مخاطب ببذل السبب المستوعب، وعليك أن تترك الجواب لرب الأرباب، الذي من حكمته أن جعل المنع والعطاء على درجة سواء في الابتلاء، فمالك الأشياء يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، كما أنه يبسط لمن يشاء ويقدِر على من يشاء، وعجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير..
والمؤمن أيضاً مطالب بالنظر إلى ما في يد الله والغض عما في أيدي الناس، ومطالب كذلك بالنظر إلى من هو أسفل منه والغض عمن هو فوقه في الماديات؛ حتى لا يزدري ما هو فيه من نعمة.
ثم إن الناس منهم من حظه مال، ومنهم من حظه علم، ومنهم من حظه خُلق، ومنهم غير ذلك على تفاوت في كل مقسوم .
وعلى المؤمن أن لا يتوقف عن بذل الأسباب وتحسينها؛ فذاك من باب التعبدات المطلوبة إذ أنه ليس مسؤولاً عن أبعد من ذلك.
ثم إن التوازن في طلب الأشياء وتقديم بعضها على بعض أمر مهم للاستقرار المثمر في الحياة.
وليست السعادة بمقدار ما لديك أو تقدر عليه من موجودات، ولكن السعادة أمر نفسي يقوم على الأنس بالله مورثاً طمأنينة تحوط الأسباب.
فالأمر كله قائم على التيقن بأن الكريم حاشاه أن يترك أحداً من خلقه من غير أن يمنحه ما يستحقه...
د.عبدالحق القريضي
ما يفلتك.. كريم حاشاه 1785