ذلك الموعد الذي يأتي بعد صلاة المغرب مباشرة كان مقدساً لدي عندما كنت في المرحلة الإعدادية، اترك دون اعتذار مباراة كرة القدم مع الأصدقاء في أوج حماسها بحافتنا (حارتنا) وأعود إلى البيت مهرولًا، ليس من أجل عمل الواجب المنزلي الذي كلفت به في المدرسة أو مذاكرة دروسي وتحضيرها لليوم القادم، فأكيد بأنه سيكون لها وقت آخر لاحقًا قبل النوم، حتى توفير حاجيات البيت بإلزام من أمي أيضاً تؤجل على الرغم من إصرارها ومتابعتها. فكل شيء يمكن أن يكون له وقت آخر ولكن برنامج (هذه هي الحياة) الذي كان يبث على القناة الأولى قبل أن تصير فضائية، لا يمكن أن يكون له إلا ذلك التوقيت، ففكرة الإعادة لم تكن قد طبقت بعد على القنوات المحلية وخصوصًا إعادة البرامج التي تعني بالأطفال، فإذا فاتني فليس هناك من معوض.
من شدة إعجابي بالبرنامج كنت أقص ما حدث بالتفصيل الممل على زملائي في المدرسة وأصدقائي في الحارة في اليوم التالي، وهم بدورهم تحولوا تدريجيًا من متابعين بالتوصية إلى مهتمين يوصون آخرين بالمتابعة، وصرنا نتشارك الأحداث في الحلقة السابقة ونقوم بإعادة تمثيلها بأسلوب حواري وبدقة متناهية.
ما شدنا في هذا البرنامج هو تشخيص جسم الإنسان وما يحتويه من أعضاء وأجزاء على هيئة شخوص وكائنات تتكلم وتتبادل أطراف الحديث، تتعارك وتتصالح، تارة تنتصر وتارة تنهزم، تتقدم وتنسحب، أبهرتنا تلك الحروب التي كانت تقوم بين كريات الدم البيضاء كخط دفاع مهم مواجهة للعناصر الدخيلة على جسم الإنسان (بكتيريا وفيروسات وجراثيم) وكيف أن كريات الدم البيضاء (المخلوقات الطيبة) مستميتة في الدفاع عن الجسم ضد الجراثيم (المخلوقات الشريرة) التي تحاول أن تؤذي جسم الإنسان لتلحقه بالأمراض.. معلومات استثنائية حصلنا عليها بالصدفة من خلال الحلقات المنفصلة المتصلة، لم نكن نتوقعها إطلاقًا وصدمنا بها، ولعل أهمها وما جعلتنا نفتح أفواهنا تعجباً وعيوننا تتسع، أن هناك أجساماً صغيرة جدًا كالبكتيريا يمكن أن تكون مفيدة وتلعب دوراً مهماً بداخل جسم الإنسان، وليس كما نتوقع أن البكتيريا وغيرها من تلك الأجسام الصغيرة لا تلعب إلا تلك الأدوار المضرة والمؤذية للإنسان.
إن الشخص الذي أقترح تلك الكائنات التي قامت بأدوار البطولة في جسم الإنسان كان موفقًا إلى حد بعيد وكان النجاح حليف الرسام المسئول عن رسمها والذي أوكل إليه تصميمها وإسقاطها على الورق في هذا البرنامج الذي جمع بين التثقيف والتسلية، في الأخير كان برنامجاً أقنع المشاهد وتمكن من إيصال الفكرة للمتابعين من أطفال وشباب، حتى الطلاب منهم وجدوا في تلك الحلقات الكثير من دروس مادة العلوم المقررة في المنهج الدراسي. حينها أعجبني الذكاء في استخدام الألوان والخطوط لتشكيل ملامح المخلوقات الدخيلة التي تقوم بالعدوان على جسم الإنسان، فألوانها بالفعل توحي بالخطر كالأحمر الذي يعني قدوم الخطر، وأجسادها نحيلة وشعرها يقف كالإبر وأصابعها تنتهي بأظافر حادة وفي فمها أسنان كالمنشار لتحدث الضرر.
ذات الموضوع تكرر في الأفلام الدينية الإسلامية التي صورت حياة الرسول بأهم أحداثها من هجرات وغزوات ... كفيلم (فجر الإسلام) وفيلم (هجرة الرسول) وغيرهما العديد من الأفلام باقية كشاهد على ما سبق ولم نعشه، فقد نجح طاقم العمل في كل فيلم من هذه الأفلام بتصوير وتجسيد المعادين والخارجين عن الإسلام، والذين هاجموا الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وآذوه ووقفوا ضده وضد رسالته السامية بمظاهر وهيئات مخيفة ترعب المشاهد منذ النظرة الأولى، فالوجوه قد قطبت وعبست بملامح قاسية وأصوات جاعية، والتصرفات غاية في القبح، تجسدت بطريقة الأكل والشرب التي كانت تخلو من الإتكيت وتثير الاشمئزاز، وطريقة اللبس لم تسلم من التشويه والتسفيه، وغرائزهم الحيوانية الدائمة وكأنهم خلقوا ليكونوا حيوانات وليمارسوا الجنس فقط. وبقي سؤال يدور بعقول الباحثين عن الحقيقة المغيبة في السيرة النبوية التي صيغت في العديد من الكتب التي نقرأها بالتناقل، المجملة بشكل غريب لكل من لحق بالرسول (صلى الله عليه وسلم)، والمشوهة لكل من سلك الطريق الآخر بشكل دعا للتساؤل (إلى أية درجة كان طاقم العمل متأكداً من تلك التفاصيل؟ هل عاشوا تلك الفترة وعاصروا أولئك وانتقلوا إلى وقتنا ليخبرونا عنهم بكل ثقة؟ هل هم بالفعل سيئين في جميع نواحي الحياة؟ ألم يكن لهم جانب ولو جانب واحد مشرق في حياتهم؟). بإعتقادي أن ذكر تلك الشخصيات بأسمائها فقط ووقعها السيء على حياة الرسول كان كافياً لنعرف كم قد عانى الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتحمل؟ وكم كانوا هم حقراء بكلامهم وتصرفاتهم معه؟، وهذا ما يجعلنا نتعاطف مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) ونقدر أكثر ما حمله من رسالة كبيرة كانت للناس أجمعين، حتى أولئك الذين عارضوه، فقد ضحى كثيرًا وأنجز أكثر وتكبد في سبيل ذلك كل تلك الإساءات والعقبات والمصائب.
لدي اعتقاد عميق يعززه إيمان يفوق إيمان المسفهين لمجرد التسفيه بأن جزء كبير من الذين عادوا ووقفوا ضد الرسول وتم تجسيد شخصياتهم في تلك الأفلام لم يكونوا بذلك القبح والشناعة الرهيبين اللذين أظهرهما المخرج ورسمه منفذ المكياج وأخذته عدسات المصورين بتوجيه من مدير التصوير ومن زوايا تظهر ذلك الكفر والخبث على وجوه من كفر وعاصب ضد الرسول. من خلال ما وصل إلينا من مستشرقين ومهتمين بالإسلاميات وباحثين على امتداد قرون من بعد شروق فجر الإسلام (إسلام التسامح)، بما كانت تقوم قريش مجتمعة معادية لرسالة الإسلام، فكتبه القاص أو الأديب وهذبه السيناريست بسطور ليحفظه من بعدها الممثل الذي لم يأخذ على عاتقه البحث عن الحقيقة ليقدمها للمشاهد.. هنا أسجل تضامني وجدًا أتعاطف مع أبي جهل وأبي لهب وغيرهم الكثير من الكفار وتنضم إليهما هند بنت عتبة وغيرها الكثيرات من الكافرات، فمن الأكيد أن هناك مواطن طيبة في نفوسهم وأفعالهم في بعض جوانب حياتهم في فترة لم يكن إلا للجهل تواجد، فهل التزم بهم وأغفل البقية؟، من منطلق أن الإنسان لا يولد طيباً أو شريراً، وأن الطيب لا يظل طوال عمره طيباً والشرير لا يظل شريراً، كان يجب على الأقل أن يظهر أولئك بصورة تضمن عدم التجريح وليكن الفعل فقط ما يعبر عن شناعة ما قاموا به ضد الرسول. فليس كل من آذى الرسول بهذا القبح من صورة، ولا يعني بأن كل من وقف ضد الرسول ورسالته هو شرير وقبيح، هناك تبعات وحيثيات، وليس لأن الشيء قد كان مناهض لفطرة الرب في جزء، فإنه يجب أن يكون سيء ككل.
في تلك الأفلام التي طابعها الأغلب إسلامي، الإسلام الذي حث على التسامح مع الآخر وأوصى بالإقبال على الآخر مهما كان يعاكسنا في الاتجاه والآراء، بعد أن يسلم أحد الممثلين أو إحدى الممثلات تتغير طريقة نظرة المخرج لتلك الشخصية، فيتعاطف معها بشكل كبير ويحاول منفذ المكياج أن يخفف من قساوة تلك الملامح التي رسمها قبلًا على ذات الوجه بقدر المستطاع حتى يصل بها إلى سماحة وجه الرسول - الذي لا يظهر في تلك الأفلام - حتى الزوايا التي تأخذها عدسة المصور تحاول جاهدة أن تنقل مدى عظمة هذه الشخصية ناسفة كل ما مضى، تلك الشخصية التي لم يمر على إسلامها سوى دقائق فقط من عمر الفيلم، وقد تتحول تلك الشخصية إلى بطلة بديلة حتى نهاية الفيلم.
ما يجعلني أتمنى قرب يوم القيامة، اليوم قبل غد واللحظة قبل سابقتها هو تلهفي للقاء أبي جهل وأبي لهب، لألومهم على ما فعلوه برسول الله ولأتأكد هل كان كل أولئك الذين كفروا بهذا القبح وبتلك الشناعة؟.
جرعتنا من العاطفة نحن المسلمين زيادة عن اللازم، تحضرنا المزايدة بقصد وبدون في التعبير عن مشاعرنا، بعيدين كثيراً من الأحيان عن العقلانية في التعاطي مع الآخر وخصوصًا إذا كان عدواً أو مختلفاً معنا بجزئية بسيطة من الحياة، قريبين كثيراً من الأحيان من قطع شعرة التواصل الباقين عليها غصباً عنا ومتكلفين بحملها، بينما يظهر على السطح فجور في الخصومة.
إذا كنا سنرسم كل من سبقنا ولم نقابلهم من خلال ما وصلنا من أفعال وأحداث قاموا بها ،،،
لكان في هذه الفترة قد سافر أحد المهتمين بالسينما إلى تلك الفترة التي عاش فيها المخرج السوري العالمي / مصطفى العقاد مسافرًا حول العالم باحثًا في مناطق مختلفة عن أماكن (locations) لتصوير الفيلم الإسلامي الأشهر والأهم والأكثر إثارة للجدل العام وآراء النقاد السينمائيين حتى الآن... (الرسالة) تقول من وضعت صوتها على ذلك الفيلم التسجيلي الذي بث على إحدى قنوات النيل المصرية في أحد البرامج الكثيرة التي تهتم بالسينما ومكوناتها وما خلف الأضواء والكواليس "أن العظيم العقاد قد خسر الكثير من المال وأهدر وقتًا كبيرًا باحثاً عن أماكن معينة ذات تفاصيل تشابه تلك الأماكن التي عاش فيها الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وزمن قريب من زمنه" لكي يقنع بها المشاهد الذي بقي ينتظر فيلماً كبيراً بحجم اسم العقاد ويحكي قصة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد (صلى الله عليه وسلم)، العقاد استمات في سبيل ذلك ليرضي على الأقل غروره كمخرج له وزن ويحجز مكانًا لا ينافس عليه إطلاقًا في عالم الإخراج.
للأسف لم أدرك العقاد في تلك الفترة، لأنصحه بأن أنسب الأماكن يمكن أن يجدها هنا في بلادي اليمن، فالذي نعيشه يشبه إلى حد بعيد، بل يكاد أن يكون هو ما عاشه الرسول (صلى الله عليه وسلم) من بعدين زماني ومكاني يثلثهما بعد آخر مهم (بعد الأشخاص)، لم يكن ليخسر كل ذلك الجهد والمال والوقت، وما كان عليه سوى أن يطلب من أولئك الناس الذين يمشون في ذهاب وإياب عند أقرب شارع له بأن يستغنوا عن ساعاتهم الإلكترونية ويتجهزون للتصوير وبالنسبة للتمثيل فأنا أكيد من أن التصنع هو آخر ما سيفكرون به، لأنهم سيقدمون حياتهم الطبيعية، فاليمن لم تتغير كثيرًا منذ عهد وأيام الرسول إلى يومنا هذا، لذلك كان الفيلم سيأتي صادقًا 100%.
al-meena1920@hotmail.com
عاد نعمان
آسفون يا "أبا جهل - أبا لهب" 2407