إن التوبة هي منـزلة المنازل في طريق السائرين إلى الله تعالى، فهي أول الطريق، ووسط الطريق، وآخر الطريق، وقد قسم الله الناس إلى تائب وظالم، قال الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات .
إن استقبال رمضان بالتوبة يعني التطهر من الأمراض التي تصيب الإنسان، والأدران التي يقع فيها الشخص في سيره اليومي وعمله الحياتي، فيأتي رمضان وقلبه مهيأ، ونفسيته جاهزة، فهي بمثابة إعداد المحل، لاستقبال الزائر الكبير، إنها بمقام حرث الأرض للتجهز للبذر، ومن هنا ندرك معنى استعداد الصحابة -رضي الله عنهم- لرمضان من قبل ستة أشهر، فهو استحضار واستشعار لقيمة الوافد الكريم، الذي يرفع درجة من أحسن استغلاله؛ فيقدمه إلى أول الصفوف، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رجلان من قضاعة أسلما مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستشهد أحدهما، وأخر الآخر سنة، قال طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: فأُريت الجنة، فرأيت فيها المؤخر منهما أدخل قبل الشهيد، فعجبت لذلك، فأصبحت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أليس قد صام بعده رمضان، وصلى ستة آلاف ركعة أو كذا وكذا ركعة صلاة السنة"([1]).
إن التوبة تعني تغير الحال إلى الحال المرضي لله تعالى، فإن كنت محسناً فزد في الإحسان، وإن كنت مسيئاً فارعوي، فأنت على باب رمضان، وتعلم من زمانك زيادة إحسانك، وهنا نستمع جميعاً لصيحة ابن الجوزي في صيد الخاطر يخاطب النفس: أين الخوف؟ أين القلق؟ أين الحذر؟ أو ما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم؟.
أما كان الرسول صلى الله عليه و سلم سيد الكل ثم إنه قام حتى ورمت قدماه؟ أما كان أبو بكر -رضي الله عنه- شجي النشيج كثير البكاء؟ أما كان في خد عمر رضي الله عنه خطان من آثار الدموع؟ أما كان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن في ركعة؟ أما كان علي رضي الله عنه يبكي بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع؟ و يقول: يا دنيا غرّي غيري؟ أما كان الحسن البصري يحيا على قوة القلق؟ أما كان سعيد بن المسيب ملازماً للمسجد، فلم تفته صلاة في جماعة أربعين سنة؟ أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر واصفر؟ أما قالت بنت الربيع بن خيثم له: مالي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟ فقال: إن أباك يخاف عذاب البيات، أما كان أبو مسلم الخولاني يعلق سوطاً في المسجد يؤدب به نفسه إذا فتر؟ أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة؟ وكان يقول: والهفاة، سبقني العابدون وقطع بي([2]).
وأما المسيء فهذا رمضان قد جاء، فهلم إلى الإحسان فيه، فإنه شهر عظيم "ينادي فيه ملك: يا باغي الخير أبشر، ويا باغي الشر أقصر، حتى ينقضي رمضان"([3])، قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: واعلم ـ وفقك الله ـ أنه لا يحس بضربه مبنج، وإنما يعرف الزيادة من النقصان المحاسب لنفسه([4]).
وقال رحمه الله: وهذا لأن الله تعالى شوق بنعيم إلى نعيم و خوف بعذاب من عذاب، فأما ما يجري في الدنيا فكل ظالم معاقب في العاجل على ظلمه قبل الآجل، وكذلك كل مذنب ذنباً، وهو معنى قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} (123) سورة النساء، وربما رأى العاصي سلامة بدنه، وماله، فظن أن لا عقوبة، وغفلته عما عوقب به عقوبةٌ، وقد قال الحكماء: الحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة.
وربما كان العقاب العاجل معنوياً، كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا رب كم أعصيك و لا تعاقبني؟ فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟ فمن تأمل هذا الجنس من المعاقبة وجده بالمرصاد؛ حتى قال وهب بن الورد وقد سئل: أيجد لذة الطاعة من يعصي؟ فقال: ولا من همَّ، فرب شخص أطلق بصره فحرمه الله اعتبار بصيرته، أو لسانه فحرم صفاء قلبه، أو آثر شبهة في مطعمه، فأظلم سره، وحرم قيام الليل، وحلاوة المناجاة إلى غير ذلك. وهذا أمر يعرفه أهل محاسبة النفس، وعلى ضده يجد من يتقي الله تعالى من حسن الجزاء على التقوى عاجلاً، كما في حديث أبي أمامة: عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: "النظرة إلى المرأة سهم مسموم من سهام الشيطان من تركه ابتغاء مرضاتي آتيته إيمانا يجد حلاوته في قلبه" فهذه نبذة من هذا الجنس تنبه على مغفلها، فأما المقابلة الصريحة في الظاهر فقَلّ أن تحتبس، و مثل هذا إذا تأمله ذو بصيرة رأى الجزاء وفهم، كما قال الفضيل: إني لأعصي الله عز وجل فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي، وعن أبي العثمان النيسابوري: أنه انقطع شسع نعله في مضيه إلى الجمعة، فتعوق لإصلاحه ساعة، ثم قال: ما انقطع إلا لأني ما اغتسلت غسل الجمعة.
ومن عجائب الجزاء في الدنيا أنه لما امتدت أيدي الظلم من إخوة يوسف {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (20) سورة يوسف امتدت أكفهم بين يديه بالطلب، يقولون: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} (88) سورة يوسف ولما صبر هو يوم الهمة ملك المرأة حلالاً، ولما بغت عليه بدعواها: {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا} (25) سورة يوسف أنطقها الحق بقولها: {أَنَاْ رَاوَدتُّهُ} (51) سورة يوسف ولو أن شخصاً ترك معصية لأجل الله تعالى لرأى ثمرة ذلك، وكذلك إذا فعل طاعة، وفي الحديث: "إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة"، أي عاملوه لزيادة الأرباح العاجلة.
ولقد رأينا من سامح نفسه بما يمنع منه الشرع، طلباً للراحة العاجلة انقلبت أحواله إلى التنغص العاجل، وعكست عليه المقاصد.
حكى بعض المشايخ: أنه اشترى في زمن شبابه جارية، قال: فلما ملكتها تاقت نفسي إليها، فما زلت أسأل الفقهاء لعل مخلوقاً يرخص لي فكلهم قال: لا يجوز النظر إليها بشهوة ولا لمسها ولا جماعها إلا بعد حيضها، قال: فسألتها فأخبرتني أنها اشتريت وهي حائض، فقلت: قرب الأمر، فسألت الفقهاء؛ فقالوا: لا يعتد بهذه الحيضة حتى تحيض في ملكه، قال: فقلت لنفسي وهي شديدة التوقان لقوة الشهوة، وتمكن القدرة، وقرب المصاقبة: ما تقولين؟ فقالت: الإيمان بالصبر على الجمر شئت أم أبيت، فصبرت إلى أن حان ذلك فأثابني الله تعالى على ذلك الصبر بنيلي ما هو أعلى منها وأرفع.
الهامش:
([1]) حسن الإسناد) رواه أحمد، ج2، ص333، حديث رقم 8380 قال الأرنؤوط إسناده حسن.
([2]) ابن الجوزي: صيد الخاطر، ص69.
([3]) صحيح) رواه أحمد، ج4، ص312، حديث رقم18817. قال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح
([4]) ابن الجوزي: صيد الخاطر ، ص20.
د. محمد عبدالله الحاوري
رمضان والتوبة النصوح 2397