مثلت جمعة الكرامة التي قتل فيها من خيرة أبناء اليمن أكثر من خمسين شاباً يوماً فاصلاً في مسيرة الثورة الشبابية الشعبية السلمية، ذلك أن الأنظار توجهت من الفعل الثوري في الساحات إلى الفعل السياسي في القاعات المكيفة وتحول الثوار الذين سطروا صفحات مشرقة في تاريخ اليمن إلى مجرد مشاهدين لشاشات التلفاز في خيامهم بانتظار ما تتمخض عنه المبادرة الخليجية بنسخها المتعددة.. وبعد أن كان الشعار الرئيسي والوحيد للثورة هو " الشعب يريد إسقاط النظام " برزت شعارات كثيرة بشكل أوحى للمتابع أن نظام الرئيس علي عبدالله صالح الذي يتمنى أغلب اليمنيين زواله أفلح في جر الثوار إلى قضايا وتفاصيل وخلافات أذهبت ريح وزخم الثورة بعد أن أوشك المترددون على الالتحاق بركب الثوار، ويبدو أن تحويل الفعل الثوري إلى فعل تفاوضي كان مؤامرة إقليمية ودولية ولم تكن من بنات أفكار النظام، لأن رموزه بعد جمعة الكرامة وما تلاها من موجة استقالات في كل مفاصل الحكومة كانوا يبحثون عن عاصم يعصمهم من غضب الشعب اليمني ويفتشون كذلك عن مصارف ومؤسسات مالية تستقبل ما غنموه من قوت شعب فقير معدم، وتلك لحظة ربما كانت فارقة لو بلغ الفعل الثوري مداه.
بعد نحو ستة أشهر من الثورة الشبابية الشعبية يمكن لأي مراقب للشأن اليمني أن يسأل: هل أخمد وهج الثورة الشبابية الشعبية؟ الإجابات على هذا السؤال ربما تكون متشعبة ومختلفة نظراً للعدد الكبير من الأحداث والتطورات التي ألقت بظلالها على كل تفاصيل المشهد اليمني، فهناك من يقول إن ما هو موجود في اليمن أزمة سياسية يحاول كل طرف أن يمارس ضغطه على الآخر للخروج بتسويات ومكاسب سياسية واقتصادية وما تشهده الساحات من مظاهرات واعتصامات لا يعدو أن يكون ضغطاً شعبياً تمارسه المعارضة عبر قواعدها لتقوية موقفها التفاوضي والظفر بأكبر عدد من الحقائب والمناصب السياسية، أي أننا سنكرر ثقافة التقاسم التي كانت السبب في اندلاع حرب 1994 وما نتج عنها من كوارث لا تزال ماثلة للعيان حتى اليوم.
وهناك من يرى بأن الثورة الشبابية لم يخمد وهجها وما تزال قادرة على إرغام الجميع للانقياد لمطالبها بإقامة دولة مدنية ونظام جمهوري برلماني ورحيل الرئيس صالح وأولاده وعشيرته الأقربين والأبعدين وحجة أصحاب هذا الرأي أن من خرج إلى ساحات الحرية والتغيير منذ نحو ستة أشهر يريد تحقيق الهدف الذي ناضل من أجله وهو رحيل الرئيس صالح مريضاً أم معافىً ويؤكد أصحاب هذا الرأي أيضاً أن وراء كل ثائر قصة إنسانية واقتصادية، فمنهم من فقد قريباً ومنهم من فصل من عمله ومنهم من وضع كل أمله في هذه الثورة التي ستعيد للشعب حقوقه المسلوبة وثروته المنهوبة وتصلح قضاءه المريض وتخلص البلاد من الفاسدين الذين تبرأ منهم رأس النظام عام 2006م، لكن لم ير ولم يسمع أحد من اليمنيين أن فاسداً قُدم للمحاكمة.
وهناك رأي ثالث يركز على تداعيات أشهر الثورة الكثيرة، حيث كشفت للناس الكثير من المستور وبينت حقيقة أن اليمن هي أقل شأناً لدى المحيط الإقليمي وكيف أن فارس العرب لم يكن سوى بيدق بيد المخابرات الأميركية والسعودية وهما من يحكم اليمن حقيقة وأثبتت هذه الأشهر أيضاً أن الكثير من اليمنيين شفي من حساسية كانت مستفحلة وهي عدم الرضى بالعمالة لدولة أجنبية، حيث بدا الموقف اليوم بالنسبة للكثير من الأباة أن العمالة هي من متطلبات الحكم الرشيد في اليمن، كان الكثير من اليمنيين يعلم أن مجلس التضامن الوطني الذي يقوده حسين الأحمر يمول من شقيقة كبرى، لكن ربما لا يعلمون أن رئيسهم تأتيه حصته تماماً كما تأتي أي زعيم قبيلة، وهذا ربما يفسر تعامل الآخرين بهذا الشكل المزري مع الثورة الشبابية في اليمن.
الارتهان السافر بيد الأجنبي تعمقه المساعي التي يقودها مساعد الرئيس الأميركي/ جون برينان لإقناع أطراف "الأزمة " بالتوصل إلى حل يستند على المبادرة الخليجية بنسختها الأخيرة وهي نسخة وقعت عليها أحزاب اللقاء المشترك وحزب المؤتمر الشعبي العام ولم يبق إلا توقيع الرئيس علي صالح الذي لا يزال إلى الآن يواجه "التحدي بالتحدي" من مشفاه في العاصمة السعودية ويطلب من أبنائه وأقاربه أن يُصعدوا من العقاب الجماعي على الشعب الذي لا يزال يدعو له بالشفاء وطول العمر، لكن يبدو أنه لا علاقة للعاطفة بالسياسة، فقديماً قال الإمام المتوكلي الهاشمي الذي كان يحكم اليمن قبل 1962م "جوع كلبك يتبعك".. وهذه حكمة لم ير فيها الرئيس وأقاربه تراثاً كهنوتياً من العهد البائد يجب وأده، بل نبراساً وهذه المقولة هي التي أفرغت ثورة 26 من سبتمبر من محتواها، فانبرى اليوم شباب في عمر الزهور لتثوير الثورة، وعليهم أن يعيدوا لثورتهم شعارها الأول "الشعب يريد إسقاط النظام" بكل بُناه السياسية والأمنية وأن لا يقبلوا بنصف ثورة، فإن قبلوا، فستأتي الثورة المضادة وتصادر النصف الذي قبلوا به وذلك لعمري لا يمت بصلة لفلسفة الفعل الثوري الذي يفرض الحلول ولا يتسولها..
* نقلاً عن الشرق القطرية