إن الوجدان هو المحرك الأساسي للعمل، أي: تلك المشاعر المتوهجة، التي تدفع صاحبها للعمل، وتقوده إلى البذل والتضحية، وتندفع به نحو استكمال معاني الخير، والتحقق بالخصال الفاضلة، والأفعال المحمودة، وهي في واقع الأمر التي تجعل للأعمال قيمة مع استكمال الشكل الشرعي لها؛ لأن الإيمان في حد ذاته ما هو إلا حالة وجدانية قلبية يقينية صادقة. والمؤمن متوهج الوجدان، غني الشعور، متدفق المشاعر.
إن التدفق الوجداني يرقى بالعبد فينظر إلى الغد الكريم، هنا في عالم الأرض، وهناك في عالم الآخرة، التدفق الوجداني الذي يغطي الأحزان بالحقائق التي تراها عين البصائر، ويتجاوز المتاعب ليرى الأحلام العريضة، ففي الأثر: تذاكرنا فتح القسطنطينية والرومية؛ فدعا عبد الله بن عمرو بصندوق ففتحه، فقال : كنا عند رسول الله نكتب، فقال رجل: أي المدينتين تفتح قبل يا رسول الله؟ قال: مدينة هرقل. يريد مدينة القسطنطينية"([1]). فتأمل هذه الهمة العظيمة، وهذه النفسيات الكبيرة، يسأل عن فتح معاقل الكفر، ومراكز قوة الصليب الدينية والدنيوية، وقد تمت الأولى (فتح القسطنطينية) وننتظر الثانية.
إن التدفق الوجداني يعني التألم للضعف البشري، الذي يصيب الإنسان، فينكسر أمام شهواته، ويضعف أمام نزواته، ويسقط في حبال الشيطان، والرحمة بأهل الضعف من العصاة، وفتح آفاق الطريق إلى رحمة الله الواسعة، ورحم الله رابعة العدوية وقد قيل لها: من أدمن طرق الباب فتح له، قالت: ومتى أغلق حتى يفتح ـ تعني أنه مفتوح لمن أحب الرجوع إلى الله تعالى، قال رسول الله: "لله أفرح بتوبة عبده، من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة"([2]) وفي رواية: "لله أشد فرحا بتوبة عبده، حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد يئس من راحلته، فبينما هو كذلك؛ إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح"([3]).
فالضعف البشري يقودنا إلى حب الله لنا إذا أحسنا التعامل معه بالتوبة النصوح، والإنابة الصادقة، فالتوابون أحباب الله، والمؤمن بشر ضعيف، وضعفه البشري من أمر الله الذي جرى على الإنسان، قال رسول الله: "عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيرا له"([4]).
وقد بين بعض العلماء الأعلام أن الذنب من أمر المؤمن الذي يقع فيه، فهل هو خير له، فأوضح أنه كذلك بشرطه ـ يعني شرطه من التوبة والإنابة والعمل الصالح ـ حتى يتمنى الشيطان أنه لم يجره إلى الذنب، ولم يوقعه فيه([5]).
ومن هنا فإن الإنسان الإيجابي يتقبل ضعفه البشري، ويقبل بجهده على علاجه، ويقوم بمعالجته بكل جده، من خلال التوبة المستمرة؛ لأن لفظ التوابين صيغة مبالغة، تفيد كثرة التوبة، والإنابة والرجوع المستمر والدائم إلى الله تعالى. وفي الحديث الصحيح: "لولا أنكم تذنبون، لخلق الله خلقا يذنبون، فيستغفرون، فيغفر لهم"([6]).
إن المؤمن يفرح بالخير، والحزن على ما فات منه، والحزن بالوقوع في السوء، أو التلطخ بالشرور والآثام؛ فتسره الحسنة، وتسوءه السيئة، قال رسول الله: " من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن"([7]).
وقال الإمام الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم *** لعلي أن أنال بهم شـفاعة
وأكره من بضاعته المعاصـي *** ولو كنا سواء في البضاعة
ويقصد بإيجابية الوجدان ـ كذلك ـ التدفق الوجداني والشعوري بالأمل المحقق بالعمل، التدفق الوجداني الذي يتيقن بزوال الغث، وبقاء النافع المفيد، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} (17) سورة الرعد.
إننا على يقين بهذه الآية ووعد الله تعالى فيها، بالخير يمكث في الأرض والقتلة سيرحلون، وسيحاكمون، والله من ورائهم محيط.
الهامش:
([1]) رواه أحمد والدرامي الحاكم في المستدرك وصححه ووفقه الذهبي وهذا لفظه.
([2]) متفق عليه.
([3]) رواه مسلم.
([4]) رواه مسلم.
([5]) الوابل الصيب لابن القيم، ص 11.
([6]) رواه مسلم.
([7]) رواه الترمذي وأحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم.