فجأة تصبح الأقواس المغلقة آفاقاً مفتوحة، والصدور النائمة بين سواعد البشر صحاراً وقفاراً والأهداب المستلقية على ضفة السماء سحائب حبلى بالدخان والأتربة، كم من الكلمات عاشت حبيسة الشفاة، تتزلزل الآهات خلفها حتى تكاد معالم الروح تختفي خلف الأنقاض.. كم من نظرة غائرة في جسد الحزن تجمدت زخات حزنها بين آهةِ مدوية في أرجاء النفس وحيرة صامتة تسكن زوايا الجسد، على الطريق وقفت تصادر مقتنيات الروح وتستورد هدايا الذاكرة وتذود عن بقاياها المهمشة خلف جلباب معتق بالكاد يخفي فضول جوارحها التائهة بين فنار الليل وشاطئ النهار..
على الطريق تعلمت كيف تتمدد كمساحة مكان وتنكمش كلحظة زمن.. كيف تتوارى كبركان وتظهر كعاصفة.. كيف تلاشى مثل كلمة وتبرز مثل فكرة.. كيف تختفي كرغبة خجولة وتظهر كلذة مترفة.. كيف تذهب كماض وتعود كحاضر، كيف تطير بأجنحة الحب لتسكن أعشاش القلوب، وكيف تحلق وحيدة إذا أغلقت الأعشاش أبوابها وكي تزين سكون الليل القاتل ببضاعة الرضا وكيف تذوب في بوتقة الوجد إذا ضاق الفضاء، كيف تروض مشاعرها دون أن يمس جسدها سوط،، وكيف تنام واقفةً إذا أستحل الطغاة مساحة الأرض دون قدميها؟؟.
على الطريق امرأة بروح عنقاء وجسد طير جريح وقلب خلٍ وفي، لا تنام على ضفاف أيامها كما تنام الأرصفة على ضفاف الطريق ولا تفيض عن مساحة شرايينها كما يفيض الطوفان ولا تتزلزل كتلال الرمال بين يدي عاصفة.
هي امرأة متوجهةُ سمواً ورفعة، حين تأوي إلى كوخها كل مساء، تحتشد أمام عينيها دموع الأطفال وأمنيات الشباب وأنّات النساء والرجال فلا تكتحل عينيها بالنوم ولا تسافر روحها مع الأحلام ولا تغلق مسام جسدها شبابيك الفضول فيصبح مخدعها محراباً وأنفاسهاً، آيات بقاء وصفحات، قلبها سور، بين طيات فراشها يسكن السهد وتحت وسائدها الناعمات يعيش الأرق.. ليست كباقي نساء الأرض يرتشفن السبات إرتشافاً مقيتاً ويرتعن على بساط النوم كغائبات عن الوعي والإدراك والإحساس أيضاً!. امرأة على الطريق.. ترتدي ألوان الطيف تحت مظلة الألم وتختال بقلب مسجور على بلاط النبل والقيم.. كلما تلاطمت أمواجها وأضاعت الطريق إلى ساحل الحياة جدفت بجدائل صبرها حتى تصل..
امرأة تعلمت منها أن لا أخفي أصابعي حين يصبح لدي مخالب، وأن لا أكسر آنيتي حين تلعقها السباع، وأن أحتفظ بأحجار القرميد في عليّتي فما كل الناس بيوتهم من زجاج! امرأة من الطين والعشب والماء ، وأنت لا تجيد إلا القفز والنقيق!، ليست ساحرة.. لا تجيد الرقص مع أعمدة الدخان، لكنها تجيد التكهن وتقرأ أعين الآخرين، كما تقرأ أسطراً في كتاب، امرأة مسكونة بالحب.. متهمة بأنها تسرق قلوب الآخرين، وتقتل أحاسيسهم بالغربة وتسر في جنائز ذكراهم البائسة شبه عارية من الحزن، ولهذا تنتصب أمامها مشانق التضحيات بلا عدد، امرأة توشحت الفضيلة وارتدت قفطان العفة وحبست أنفاس قلبها وهي تمر سامقة على أكتاف العابثين بمشاعر البشر.
امرأة تجيد التحدث بلغة الروحـ لديها خبرة في مجال التسامي والتسامح، حاصلة على شهادة التفاني الإنسانية، تقطن أدغال الذاكرة وتستوقفها لحظات شروق الأمل وغروب الأحزان، غير مرتبطة باليأس ولا تحب جمع الصور المأساوية.
ألطاف الأهدل
امرأة على الطريق 2431